يدخل الكاتب الحرب ذهنيا، فيقاوم عكس عقارب الساعة أو دوران الزمن كما يقال. إذ تصبح الكلمة بالنسبة له هي المدافع الشرس عن أفكاره رغم ضراوتها في نفسه، إلا أنه يتجه عقليا نحو الكلمة بعمق غير عاطفي أحيانا، إلا أنها أي الكلمة تعصف تاريخياً، فأغلب أعمال الكتاب في الأدب عن الحرب استمرت وما زالت تقرأ كلما وقعت الحروب في منطقة ما، وعلى أرض احترقت كما الحال عندما وقع خراب هيروشيما وما نتج عنه من كارثة إنسانية كبرى، فيتحرر من قيود قواعد الحرب العسكرية ليدخلها عبر خطته الذهنية الخاصة. فاستراتيجية الحرب من خلال الأدب بالنسبة للكاتب هي واقع السرد الفعلي وقوته في التأثير عبر الزمن، والتفكير في المعنى المُخضب برؤية مستقبلية يستمدها من التحليلات العميقة والمعقدة فيه وفي القرارات التي أدت للحرب، وبجرأة مباشرة وأحيانا يستتر تحت رداء أبطاله أو خلف المعنى القصصي، والذي غالباً ما نكتشف من خلاله تأثير الحرب السىء على المدنيين، وقبل ذلك على المحاربين أنفسهم أثناء الحرب وبعد الانتهاء منها. فهل يحارب الكاتب ذهنياً طواحين الحرب الشرسة بشكل فردي أو بمعنى آخر بأحادية غير ثابتة قابلة للتطور عبر التاريخ مع صعوبة إبراز اخلاقيات الحروب من دون تشفير أو مساوئ تأثيراتها على المقاتل بعد انتهاء الحرب، وكيفية عودته إلى الحياة الطبيعية بعد ذلك دون اختلال نفسي أو حتى عصبي أو من خلال عودته للأنضمام إلى المجتمع بسلام؟ وهل الطب النفسي في أدب الحروب مارسه الكثير من الكتاب على مر التاريخ، ولو برؤية مصغرة منذ الحرب العالمية حتى الآن؟ أم أن روايات غسان كنفاني أصبحت تاريخاً لفلسطين أولا ومن ثم عربيًّا وغربيًّا حتى؟ وهل ما كتب عن الحرب اللبنانية كان قادراً على منح الصورة الشرسة لتلك الحرب كما جاء في كتابات الياس العطروني مثل عروس الخضر؟ أم أن روايات الحرب السورية في بعض منها أمسكت نفسيا بالخيوط كما يجب وبقيت على جسر الحقيقة المرة والدمار على الصعيد النفسي والاستراتيجي؟ وهل يمكن أن يتصالح كاتب العصر الحديث مع كاتب العصر القديم من خلال بناء ستراتيجية الدفاع في الحرب من خلال الأدب بشكل موحّد أو بمعنى آخر بشكل يركز نفسياً على وقائع سرد الحروب وتأثيرها على المدنيين والمحاربين معاً؟ وإن كثُرت تساؤلاتي هنا، إلا أن الحرب الذهنية من خلال الأدب هي الحرب التي تُزهق فيها الأرواح بشراسة وهمجية تنفلت فيها المعايير الإنسانية. يتردد صدى الحروب روائياً في الزمن المعاصر، فنكتشف من خلال الأدب صدماتها المؤذية جداً والتي تصاحب المجتمعات على مر السنين، ولا تُشفى الجروح تماما كالذين تُبتر أطرافهم أو يخسرون الكثير من أملاكهم أو يخسرون عائلاتهم بكثير منهم في ذاكرة يفتحونها لإبراز الصراعات المختلفة، وبقوة دفاعية عن الإنسان بالمطلق بغض النظر عن انتمائه الطائفي أو المذهبي، فالحروب وإن كانت لتحقيق مكاسب لمن يشنها إلا أنها تدمر البنية الإنسانية، وفي يومنا هذا نرى الكثير مما يؤلم فوتوغرافياً وتشكيلياً وصحفياً، وحتى في قصص قصيرة تسجل الإحساس الإنساني القلق على مصير الحياة برمتها، ولا ننسى هنا سينمائيا أيضا لبث الوعي لجمهور يهتم سينمائيا بأفلام الحروب، كما هي الحال مع الكثير من الأفلام أبرزها فيلم القناص للمخرج أنطوان فوكوا وكتابة جوناثان ليمكين، واستناداً إلى رواية عام 1993 بعنوان “قطة التأثير” بقلم ستيفن هنتر. فهل تبقى هذه الأعمال الأدبية والفنية شاهداً عندما يضمحل الزمن ويرحل عنه آخر مقاتل من الحياة باعتباره الشاهد على مأساوية المعارك؟ وهل فيلم « the pianist « أرشف قوة الإنسانية وعظمتها في الحروب الأكثر دموية حدثت على الأرض؟ أم أن الكاتب صنع ذهنيا ستراتيجيَّة حربية بصرية قوية تستمر عبر الزمن؟ وهل من مصداقية في ذلك فعلا؟ ما بين الحقيقة والخيال خيوط بالجمع وليس بالمفرد تجعلنا نتمسك بستراتيجية الدفاع لكل كاتب ترك بصمته في الحروب وصدماتها، ونتابع ما كتبوا بأهمية قصوى عن عواقب الحروب قبل أسبابها، وبشكل كارثي يعيدنا إلى همجية غير محمودة تجرجرنا نحو الفناء. فهل ما قاله بول فاليري أصبح كعلم يرفرف في أجواء الحروب “نحن الحضارات الأخرى نعرف الآن أننا فانون”؟ أم أن الإرث الأدبي عن الحروب الوفير هو بمثابة تحذيرات للإنسانية من خطر الحروب بجميع سلبياتها؟ وهل هذه هي الحرب الحقيقية ذهنياً؟ وإذا كان الأمر كذلك ماذا عن رواية سارقة الكتب لماركوس زوساك، وهل الحرب في الأدب الروائي يستدعي شن الحروب الذهنية بقوة لتكون متعادلة بين الأطراف من حيث الفعل وردة الفعل؟ أم أن أدب آن فرانك في يومياتها تجعلنا نتمسك بمقولتها “لا أريد أن أعيش عبثاً مثل معظم الناس. أريد أن أكون مفيدة وأجلب المتعة لجميع الناس. حتى أولئك الذين لم أقابلهم من قبل. أريد الاستمرار في العيش حتى بعد موتي”. وهل في المذكرات عن الحروب لقادة من العسكريين تحديداً وتابعناهم ما يُشفي الصدور في الأدب؟