نضرب كفاً بكف ونحن نرى الواقع السياسي في العراق كيف أصبح في قاعٍ صفصف. كيف نداوي جرحاً يزداد غوراً في بلد كان عظيماً في كل شيء وأصبح متهاوياً ومتهالكاً في أيّ شيء؟ حتى في قصص الأفلام الهندية لا تجد قصة مشابهة لما يحدث في العراق.هل سمعتم بحكاية سرقة القرن التي “داخ” الشعب من تفسير أحداثها وبطولات فُسادّها؟ هل رأيتم حجم المال المنهوب وعادت بكم الذاكرة إلى حكايات علي بابا والأربعين حرامي؟ أكثر من مليارين ونصف مليار دولار قد تبخرت من الأمانات الضريبية واستقرت في جيوب أشباح لا نعرف عنهم سوى أنهم أشباح بشرية.المؤكد أن المبلغ يفوق المُعلن بأضعاف، وهذا ما تكشفه الفضائح يومياً، ولكن خوفاً على المواطن العراقي من الصدمة والجلطة القلبية والدماغية فقد تم تهوين المبلغ.
إلى غاية الآن لا يوجد جديد في الحكاية التي تناولها الشارع العراقي وكأنها حكاية من الحكايات التي تروى للأطفال قبل نومهم. لكن المضحك في هذه الملحمة هو ظهور بطل سرقة القرن والمتهم الأول على إحدى القنوات الفضائية من داخل قصره الوارف الذي يشابه قصور الملوك والسلاطين، وهو جالس يُنظّر ويهدد بكشف أسماء المتورطين أو الذين طالبوه بجزء من الغنيمة.لا نعتب على هذا المتهم بهذه القضية بل على الإعلام الذي أصبح شريكاً مكشوفاً لنصرة الفساد من حيث يعلم أو لا يعلم. ذلك الإعلام الذي يجعل من السارق والفاسد بطلاً قومياً أمام الجمهور وهو يشاهد عبر شاشة الفضائية كيف يسرد البطل حكايته في السرقة وحتى يبرر الفعل. لِمَ لا؟ ففي بلد مثل العراق كل شيء مستباح حتى الشرف والنزاهة.
في هذه الحكاية التي أبطالها وزراء وبرلمانيون وحاشية سلطة ومستشارون وإعلاميون وألوان مختلفة من العناوين الوظيفية والمسمّيات الذين اشتركوا في مهمة سرقة القرن التي يبدو أن لها بداية لكن خاتمتها ستكون طويلة الأمد أو مثل أجزاء المسلسلات التي لا تنتهي فصولها.نعم، ظهر بطل السرقة من على شاشة إحدى الفضائيات العراقية وهو يهدد ويتوعد بكشف كل الأسماء التي ساومته أو ابتزته من أجل الحصول على حصتها من الغنيمة. كان الرجل يتحدث بكل الثقة التي توحي إليه الصورة بعيداً عن أي توتر أو إرباك قد يحيط بمتهم وهو يتحدث عن تجربته في السرقة.
كان نور زهير المتهم بسرقة القرن واثقاً من نفسه وهو يطالب بمحاكمة علنية لكشف كل الأوراق في ما إذا دخل إلى المحكمة في بغداد. تأجلت محاكمته إلى يوم السابع والعشرين من شهر أغسطس لعدم حضوره الجلسة بعد أن تم إلقاء القبض عليه خلال محاولته الهروب خارج البلاد عن طريق مطار بغداد الدولي عبر طائرة خاصة. إطلاق سراحه تم بعد إبرام صفقة مع الحكومة لإعادة الأموال المسروقة إلى خزينتها وفق جدول زمني.
شخصياً، أتمنى أن تكشف هذه المحاكمة “إن حدثت” خفايا وأسرار هذه السرقة وأسماء المتورطين، وإن كنت على يقين بأن ذلك لن يحدث وسيتم إسكات ذلك الصوت إما بالترهيب أو الترغيب. وأخشى أن يتكرر سيناريو رئيس الوقف السني الأسبق سعد كمبش الذي اغتيل في سجنه وقبل محاكمته بعد أن وصلت الأمور إلى طريق كشف المستور في قضايا فساد اتُهم بها مع شركاء له، أو تتكرر حوادث اغتيال الفاشنيستات أو البلوجرات اللواتي تم إلقاء القبض عليهنّ وتصفيتهنّ داخل السجون بعد أن هددن بكشف خفايا وأسرار قد تُسقط العملية السياسية.سرقة القرن التي وصلت إلى عشرة مليارات دولار، أي ما يعادل موازنة إحدى دول الجوار، لتتجاوز الرقم المُعلن والتي تتخوف بعض الأوساط السياسية في العراق من إعلان أسماء المشتركين فيها، والتي يعني البوح بها انهيار المعبد على كهنته. لكن الأغرب هو التلويح بوجود دول إقليمية اشتركت في تلك السرقة التي لا تريد كشف أسرارها.
ومن هنا تأتي الصعوبة في محاكمة المتهمين بسرقة القرن، وما محاولات تحديد مواعيد للمحاكمة إلا أسلوب في تذويب القضية التي هي أصلاً ذائبة وغائبة في عقول العراقيين الذين تضج عقولهم بقصص وحكايات عن الفساد التي لا تنتهي، يضاف إليها حجم المعاناة والألم من صعوبة الحياة. فهل تبقى مساحة فارغة في العقل لحكاية مثل سرقة القرن؟سرقة القرن بشخوصها وأبطالها وحجم المبالغ المسروقة فضحت عورة النظام السياسي وتآكله من الداخل، حيث يتشابك الفساد مع السياسة. ويا لها من صفقة خاسرة يدفع العراقيون أثمانها.