أسهم التاريخ النقديّ العربيّ في أسطرة (المعلّقات) ورفعِها إلى مصاف النصوص الشعريّة العظيمة في تاريخ الشعريّة العربيّة، بَلْهَ شعريّات العالم أجمع، وبالغتْ هذه الأسطرة في عنفها وفرضها وتقليص مساحة مناقشتها حتى بلغت درجة عالية من التقديس وصارت (قرآن الجاهليّة)، وتحدُّ هذه الدرجة التقديسيّة عُرفَاً من إمكانيّة مراجعتها ونقدها وفحص مكوّناتها الفنيّة والأدبيّة والجماليّة، وهو ما يتآلف وينسجم مع تاريخنا العربيّ المزدان بالتزوير والترويع والقهر وإهمال الحقائق التي تتمتّع بضوءٍ كبيرٍ وواسعٍ وساطعٍ، إذ تعاهد الدارسون على اتفاقٍ ضمنيّ يؤكّد علوّ كعب قصائد المعلّقات على سائر الشعر العربيّ القديم، وتحريم الحطّ من قيمتها أو التشكيك بعبقريّتها مهما كانت الأسباب.
درجت الكتبُ النقديّةُ التي سوّقتْ هذه الظاهرة على إعادة إنتاج المقولات نفسها من دون معاينة نقديّة فاحصة تُذكَر، وظلّت المعلّقات تعتلي جدران الكعبة في الذهنيّة العربيّة الأدبيّة وقد سُطِّرتْ بماء الذهب أو ماءِ الأسطورة! غير أنّ مراجعةً هادئةً بعيدةً عن هيمنة المقدّس وسلطته الدمويّة القاهرة بوسعها أن تكشف حجمَ الوهم في أسطورة المعلّقات، ليس على صعيد ما أُشيع حولها من أكاذيب عن تعليقها على شكل لوحات مكتوبة بماء الذهب في أوّل (كاليري) شعريّ مُتخيّلٍ تحتويه جدران الكعبة، بل على صعيد مستواها الفنيّ وقيمتها الجماليّة وطرائق التعبير والتشكيل الأدبيّة فيها، فضلاً عن مقولتها الكونيّة الكبرى كما يليق بالنصوص العظيمة من هذا النوع في تاريخ البشريّة، لنجد أنّها قصائد عاديّة ليست بأجود الشعر الجاهليّ من قصائد، فباستثناء قصيدة (طرفة بن العبد) التي تنطوي على رؤية وجوديّة للذات والمجموع والأشياء فإنّ بقية المعلّقات سواءً أكانت سبعاً أم عشراً أم أكثر لا ترقى إلى مستوى النصوص الشعريّة الكبرى التي تستحقّ هذه المكانة، فمعظمها ضعيفٌ من مناحٍ كثيرةٍ، فنيّة وموضوعيّة، وهي حتى لشعراء المعلّقات أنفسهم ليست بأحسن شعرهم فلكلّ منهم قصائد أخرى أهمّ من المعلّقة وأكثر جماليّة وعمقاً.
ما بالنا نثقُ بالتاريخ كلّ هذه الثقة غير المناسبة وغير المبرّرة وغير الطبيعيّة، ونُذعن له كلّ هذا الإذعان السلبيّ الذي أسهم في محو شخصيّاتنا تماماً وعمل على تقويضِ إنسانيّتنا! ما بالنا نطأطئ رؤوسَنا لترّهاته على هذا النحو البليد بلا موقفٍ ولا اعتراضٍ ولا سؤال، وهو يكذب أمامنا وعلينا مزوّراً لما يخدم سياسة مؤلّفيه ومقاصدهم ومستجيباً لأحلامهم ونيّاتهم!
متى يا تُرى يمكنُ أن ننتبهَ إلى نداءِ أنفسنا العميقِ، ونُخلصَ لذواتنا المسكينةِ، ونعرّفَ الأشياءَ بدقّة كما يجبُ أن تعرّفَ مثلما تفعلُ الشعوبُ الأخرى، ونعرفُ ماذا نريدُ، ومتى، على وجه الدقّةِ واليقينِ والمعرفةِ والتحديدِ السليم؟ متى تتحفّزُ عقولُنا الغافيةُ على مقولاتٍ جاهزةٍ صارت الآن في حُكم الميّتة كي نصل إلى درجة البسالة المطلوبة لندافعَ عن وجودنا الحيّ بلا وسائط ولا شفاعات ولا أدعية؟
ينبغي أن نراجعَ ثقافتَنا العربيّة الإسلاميّة بتشكيلاتها المتنوّعة والمتعدّدة مراجعة علميّة فاحصة بلا حواجز ولا مصدّات ولا تابوهات، لنلحقَ بالشعوب المتحضّرة التي تراجع أنفسها كلّ عام وتتجدّد باستمرار لغةً وأدباً وسلوكاً وحضارةً ورؤيةً وشكلاً، وينبغي علينا كذلك أن نغادر جلباب الماضي ونضعه في متحفٍ هادئٍ للذكرى والموعظة الحسنة، وننفتحَ على أفقٍ حضاريّ يأخذ بأسباب التراث في محطّاته المضيئة المُشرقةِ وقد أنارتْ ظلمةَ الآخرين فيما مضى، ومن ثمّ نشجعُ ونأخذُ بيدِ من يؤمن بالحاضر ويعمل عليه ناظراً نحو الآخر على سبيل الإفادة منه لا على سبيل معاداته ومناهضته بلا سببٍ، وتكون مراجعتنا عقليّة وعلميّة بلا غرورٍ من جهة الذات، ولا إحساسٍ بالدونيّة من جهة الآخر، حتّى نعرفَ ما نريد بدقّةٍ ووضوحٍ وقيمةٍ، على النحو الذي يسهّل لنا تلمّس السبيل نحو غدٍ أفضل ما زلنا نبحث عنه حائرين بلا نتيجةٍ ولا يقينٍ ولا جدوى، لنرى الأشياء بعينٍ ثانيةٍ لم تنسحق تحت وطأة الرأي الأبويّ الهابط من السماء ولا يحقّ لابن حوّاء النظر فيه بعيداً عن سلطة الهيمنة، وندرك أنّ المعلّقات ليست أجود ما ترك لنا شعراء الجاهلية من شعر، وأنّها لم تعلّق على أستار الكعبة، ولم تُكتب بماء الذهب، ولم تصل إلينا على هذا النحو الضاغط إلّا لغايةٍ في نفس يعقوب!
لماذا هذه السلطة الطاغية للمعلّقات وتحريم المساس بها بوصفها حقيقةً ثابتةً لا مجال لتغييرها أو مساءلتها أو إيقاظها من غفوتها السعيدة الآمنة المطمئنّة؟ نزعم أنّ مراجعةً دقيقةً عارفةً لها ستكتشف بسهولةٍ حجم الغطاء السميك الذي يحجبها عن النقد العلميّ الرصين، ولا بدّ من القول في هذه المناسبة إنّ الحديث عن المعلّقات هنا ليس سوى علامة مشحونة بالقصد نحو العبور إلى علامات ثقافيّة مشابهة تستحقّ المراجعة والنقد والتقويم، ينبغي أن تتهشّم السلطات كلّها في حضرة النقد حين يرتفع هذا النقد إلى مقامه الحضاريّ القادر على قيادة الأمم، فمستقبل الشعوب كما يقولون مرهونٌ بتحضّر نقادها وحداثتهم ومعرفيّتهم وعدالتهم الفنيّة والجماليّة، لا سبيل إلى حضارةٍ بوسعها أن تنتمي بقوّة وكفاءة وجدارة لنادي الحضارة العالميّة من غير مكانةٍ متألّقةٍ ساطعةٍ لنقّادها، ولا سبيل إلى نقدٍ بهذا المستوى من دون حريّة بلا تابوهات يتسلّح بها جرأةً وشجاعةً موضوعيّةً وعلميّةً وفصاحةً، ولتكن البداية دائماً بما تعارف الجميع عليه بالمُسلّمات التي تضع على سبيل المثال (المعلّقات) في قمّة الشعريّة العربيّة، وغير ذلك ممّا تعاهدنا على قيمتها العليا المقدّسة في الثقافة والأدب والمعرفة بلا مراجعةٍ ولا حسابٍ ولا نقدٍ جسورٍ يعيدُ الحقائقَ إلى نصابها.أدعو إلى إنزال المعلّقات من على جدران الذاكرة الشعريّة العربيّة وقد تآكلتْ حروفها منذ مئات السنين كي يتسنّى لذوي الشأن النقديّ النظر فيها مجدّداً.
وحين يتمّ عزل ما هو غير شعريّ فيها على المستويات كافّة لتكونَ تحت مستوى النظر وليس فوقه لن يبقى منها الكثير، كي يتحوّل الانتباه بعد ذلك نحو ما هو أهمّ وأخطر لنعيد إنتاج تراثنا بأدواتٍ علميّة حديثةٍ وآليّات قادرة على الكشف والاكتشاف على وفق رؤيةٍ حديثةٍ تسهّلُ لنا الانتماء لنادي الحضارة الحديثة، بحيث نكون أعضاءَ منتِجين ومسهمين على نحوٍ أو آخر في بناء صرح هذه الحضارةِ، ونكفُّ عن لعبِ دور المستهلِكِ السلبيّ كي لا يأتي اليوم (القريب) الذي نكون فيه خارج قوس الحضارة فنفني في غياهب التخلّف والموت والنسيان.