الشيطنة السياسية الإيرانية تبدو تداعياتها هذه الأيام مقلوبة ضد النظام القائم، واحد من أمثلتها السيناريوهات المتوقعة في السياسة الأميركية الجديدة بالمنطقة بعد عام من تورط طهران بالحرب الأوكرانية، كذلك القلق المتصاعد داخل المنطقة العربية الذي سيقود إلى قيام تحالف إقليمي جديد يضع في قلبه العراق وسوريا رغم خصوصية ظرفيهما، فالمشروع المتوقع رغم صعوبة تفصيلاته يأتي في سياق إجراء عملية تحوّل سياسي متقن يحصل في كلا النظامين العراقي والسوري حيث سيُرغمان أميركياً على “التطبيع الإبراهيمي”، على غرار ما حصل مع الأردن والإمارات وقبلهما مصر، وبرضى النظام السعودي المتوقع قيادته للنظام العربي في المرحلة المقبلة.لكن الرفض الإعلامي المُستعجَل من الموالين للنظامين في بغداد ودمشق أو محبّيهما لا يلغي احتمالات التحول السياسي الذي أصبح أكثر من حاجة وطنية شعبية داخل سوريا والعراق ابتعاداً عن حل الانقلابات العسكرية.
أليس كافياً مسلسل المجازر الوحشية من قتل وتشريد للملايين ومن الجوع والفقر الهائل بين أبناء سوريا والعراق؟ الانتفاضات والثورات الشعبية في البلدين العربيين رغم ما قدمته بعض العواصم الخليجية من أموال لبعض قوى المعارضة السورية التي تحولت إلى قواعد وساحات للإرهاب، استفاد منها النظام السوري القائم لاستمرار حكمه. رغم تلك الكوارث لم تتحرك دعوات حقوق الإنسان المزيفة المنطلقة من العاصمة الأميركية والعواصم الغربية الحليفة.الوضع الحالي في المنطقة معقد، وحرب أوكرانيا بلورت الاستقطاب الجديد الذي يعيد مناخ الحرب الباردة إلى احتمالات حرب ثالثة بوجهها النووي البشع.
روسيا فلاديمير بوتين إلى جانب الصين تتزعمان تحالفاً جديداً يمكن أن يكبر بجانبه العسكري والأمني الذي تديره موسكو بعد ضمها لطهران، وجانبه الاقتصادي خاصة في ملف النقد البديل الذي تقوده الصين بمهارة. ما زالت اللعبة في بدايتها. لواشنطن خبرة لم تبرد سخونتها بعد في صراع القطبية الذي أسقطت من خلاله الاتحاد السوفييتي.لم يواجه حاكم البيت الأبيض في واشنطن جو بايدن مشكلة في البحث عن خيار العودة إلى المنطقة العربية بعد أن قرر هجرها منذ وصوله إلى السلطة في يناير 2021، كانت تبريراته هو وحزبه الديمقراطي التوجه لمجابهة الخطر العالمي في الصين وروسيا. وجاءت حرب أوكرانيا في الرابع والعشرين من فبراير من العام الماضي كمتغير جيوسياسي هائل أضاف للخطرين الروسي والصيني الخطر الإيراني الذي أغفله بايدن متعمداً دون مبرر، ونقلته تلك الحرب إلى الشرق الأوسط.
في التقرير الإستراتيجي للبيت الأبيض أوائل عام 2022 تراجعت واشنطن عن حتمية انفرادها بقيادة العالم، لتعود مجدداً بعد الحرب الأوكرانية إلى نبرة الانفراد القطبي. لهذا وضعت واشنطن مخاطر طهران في قلب إستراتيجيتها للأمن القومي الأميركي لعام 2023 وكأنها لم تكن كذلك في سنواتها الأربع والأربعين الماضية.لكي تُسهّل إدارة البيت الأبيض على الدوائر التنفيذية في الخارجية والبنتاغون والمخابرات مهماتها الجديدة وضعت قواعد وتفصيلات استهدفت إحداث التغيير السلس في النظامين العراقي والسوري وتخليص البلدين من الهيمنة الحالية المباشرة للنظام الإيراني، بعيداً عن خيار القوة أو الاجتياح العسكري مثلما حصل مع النظام العراقي.تعلم واشنطن أن مهمتها صعبة، خاصة بعد انبثاق التحالف الثلاثي الحربي الجديد (موسكو، بكين، طهران) بخطوات جدّية وخطيرة من المواجهة مع واشنطن، مما يشجعها على التسريع في مواصلة تنفيذ الفصول المهمة مع النظام الحاكم في العراق من البوابة الاقتصادية (إيقاف تهريب الدولار إلى طهران)، ويبدو أنها قد وجدت استجابة سريعة من الحكومة العراقية، وبالتالي ظاهرياً مع أحزابها الموالية لطهران.
الحكومة العراقية وإطارها الشيعي الموالي لطهران مُجبران على الإذعان للنظام المالي الجديد، فهما واثقان أن لدى واشنطن إستراتيجية عمل جديدة العراق من ضمنها، عزل طهران، والقادم الصعب هو الخروج الإجباري للعراق من عمامة وعباءة ملالي طهران.حسب التسريبات فإن الشروط الأميركية للعراق الجديد تتطلب الاستجابة للاتفاقية الإبراهيمية مع إسرائيل التي دخلتها بعد مصر والأردن كل من الإمارات والبحرين، فالمطلوب اليوم من العراق وسوريا دخولها.الأهم في البنود الجديدة على العراق تنفيذ مشروع ربط الطاقة بينه وبين الأردن والخليج، والتنفيذ السريع لربط البصرة بالعقبة في خط جديد لأنابيب النفط. والتحضير لقطع علاقة العراق النفطية بإيران وإيجاد بدائل للطاقة. ويبدو أن موافقة واشنطن على تسديد ما بذمة العراق لإيران بأموال مستبدلة بالدولار أحد التسهيلات لتصفير ذمم العراق.
الشرط الأميركي الآخر يتعلق بحل القوات الميليشياوية والحشد الولائي التي تقف وراء مجازر القتل الجماعي والفردي التي بدأت هذه الأيام تستعيد الأجواء الشريرة لأعوام 2006 – 2007 الطائفية، وليس الاكتفاء فقط بإخراجها من المدن السنيّة.البرنامج الأميركي الجديد بدأ يثير رعب علي خامنئي، فكثف توجيهاته لموظفيه ومستشاريه للقيام بزيارات عاجلة إلى بغداد، كزيارة وزير الخارجية حسين عبداللهيان الذي أوضح خلال لقاءاته بالمسؤولين الأمنيين العراقيين، ومنهم مستشار الأمن الوطني العراقي قاسم الأعرجي، أسف طهران على عدم تفعيل الاتفاقية الأمنية مع بغداد. وهذا سبب من أسباب قرار القيادة الإيرانية زيارة على شمخاني أمين عام المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني إلى بغداد.
صدى التحول في الموقف الأميركي الجديد ظهر بسرعة عبر فعاليات بعض المسؤولين الحكوميين العراقيين، كرئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي الذي استثمر بشكل شخصي انغمار رئيس الوزراء محمد السوداني بالمشكلات الداخلية، حيث زار بشكل مفاجئ طهران للإيحاء بأنه ما زال قادراً على لعب دور الوسيط ليس بين الرياض وطهران إنما بين طهران وواشنطن.ورغم أن تحرّك الكاظمي لا وزن دبلوماسيا أو سياسيا عراقيا داخليا مؤثرا له، حيث واجه عداء علنياً من القوى الولائية التي طالبت بمحاكمته في ملف مقتل قاسم سليماني وأبومهدي المهندس، إلا أن طهران بحاجة لمن يخفف عنها العبء الحالي بالعزلة الإقليمية والدولية، وما سيواجهه نظامها في الأيام المقبلة من تصعيد أميركي، لذلك لا يهمها إن كان الكاظمي في مسؤوليته الحكومية أم لا!
تضخيم الكاظمي لدوره في الوساطة بين الرياض وطهران ليس فيه رصيد في الواقع، حيث نفى وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان خلال مشاركته في مؤتمر ميونخ ما تردد حول إرسال الرياض أيّ رسائل خاصة أو سرّية إلى إيران بهدف التقارب وتجاوز التوتر الحاصل بين البلدين، وأن “النظام الإيراني يمارس سلوكا مستهترا يهدد الأمن والاقتصاد العالمي. إيران استهدفت منشآت النفط السعودية بـ16 صاروخا في سبتمبر الماضي، هذا الإجراء شكل خطراً على الاقتصاد العالمي. عندما تعترف إيران بتصرفاتها العدوانية وتأثيرها على عدم الاستقرار الأمني بالمنطقة يمكن حينها أن نناقش موضوع المحادثات”.
وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف الذي شارك في ذلك المؤتمر أكد أنه “لا يعتقد أن السعودية تريد نزع فتيل التوتر مع إيران نظرا لوجودها بقوة تحت تأثير الحملة الأميركية للضغط على إيران”.إذن الجانبان الإيراني والسعودي لا يمتلكان استعدادات الحوار المباشر، فلماذا يريد مصطفى الكاظمي أن يصنع له دوراً مفتعلاً. أما بشأن واشنطن فالمسألة أكبر بعد قرارها عزل طهران وإعادتها إلى حجمها الطبيعي، فلا أساس لمصالحة بين طهران وواشنطن.الإستراتيجية السياسية للأمن القومي الأميركي لعام 2023 تضع بغداد ودمشق على ذات مسطرة التأهيل بعد الخروج من المظلة الإيرانية المظلمة والدخول في الحلف العربي الجديد.
في ملف تأهيل سوريا للعودة إلى النظام العربي وضمها إلى التحالف الجديد، يبدو أن واشنطن لا تمانع في ذلك رغم الحملة التي ما زالت متواصلة في ملف “الكبتاغون” وقانونه الذي وقّعه الرئيس بايدن بعد تمريره في الكونغرس الأميركي، وكذلك قانون قيصر.نتذكر كيف دُمجت دمشق مع بغداد عام 2003 في التحضير لغزوها بعد بغداد. كذلك استحضار شروط كولن باول وتلويحه في جلسة مجلس الأمن في 5 فبراير 2003 بزجاجة مسحوق إشارة على أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل، لتبرير الغزو الأميركي. ندم باول على ذلك التصرف آخر أيام حياته ووصفه ببقعة سوداء في تاريخه، لكن شعب العراق دفع الآلاف من الضحايا وأكثر من 4 مليون طفل يتيم.
الهدف الأميركي اليوم عزل إيران وإعادة النظام الحالي إلى محيطه الداخلي وإنهاء حالة استهتار هذا النظام بقواعد استقلال الدول عبر صناعة ودعم أنظمة بقاؤها مرتبط بعلاقتها التبعية، كنظامي بشار الأسد في سوريا ومجموعة الولائيين في العراق.لإسرائيل إستراتيجة مواجهة مع طهران ذات أبعاد عسكرية تستهدف تدمير مراكز المفاعلات النووية بعد الأنباء المؤكدة عن وصول التخصيب إلى 90 درجة، أي إمكانية صنع القنبلة النووية.المنطقة مقبلة على صيف ساخن بعد ربيع سياسي مضطرب، واشنطن اليوم في ظل رئاسة بايدن الذي أعطى لطهران ما أعطاه سيده باراك أوباما 2009 – 2017 لديها مشروع قيام تحالف عربي إقليمي لعزل طهران لا يُرضي وكلاء نظام الملالي، لكن هذه هي السياسة؟ ما فرحوا به لعشرين سنة من نهب بشع لمال العراقيين لا يدوم، فنهايته مرتبطة برحيل نظام طهران عن العراق ليقرر أهله مصيره السياسي. كذلك وضع دمشق، لا تقبل جميع القيم الإنسانية والأخلاقية بقاء أهل سوريا العظيمة في ما هم عليه اليوم، وهذا يفسر التحرك العربي الجديد تجاه دمشق.وليس غريباً، مثلما كانت المصالح الأميركية سبباً مباشراً لما حصل من نكبات لدمشق وبغداد، أن تعودا إلى دورهما الذي كانتا عليه وفق المصالح الأميركية أيضاً.