لم يسبق للشعب العراقي أن دخل البرلمان في حياته قاطبة. وذلك إلى أن مات، فورثته الميليشيات والطوائف.في العهود السابقة كانت عضوية البرلمان مما يتقرر سلفا، بما يغني عن الحاجة إلى انتخابات. وللتعويض عن عدم مشاركة الشعب في تحديد نوابه، فقد أصبح اسمه “مجلس الشعب”. وكان ذلك تعويضا ناجحا، كتمرين من تمارين التمويه. الشعب تم اختزاله بممثلين منتخبين أو معينين يمثلون أحزابا أو “قطاعات شعبية” في العهد الذي لا يبيد، خلفا للإقطاعيات والأسر في “العهد البائد”، حتى جاء نظام المحاصصات الطائفية لكي يتحول المجلس إلى “مجلس نواب” منتخب إنما على أسس لم يعد “الشعب العراقي” منظورا فيها. حلت محله الطوائف، ثم حلت الأحزاب والميليشيات محل الطوائف، ثم أصبح كل شيء رهنا إما بهذا الزعيم أو ذاك.
لم يعثر السنة على خير من محمد الحلبوسي وخميس الخنجر، وكانا بدورهما خير خلف لخير سلف ممن ورثوا مفاسد الغزو الأميركي للعراق وانحطاطاته. حتى قيل إن تحالفهما “تقدم”، الذي لم يوفر الحماية للمحافظات السنية من الانتهاكات والجرائم التي مارستها الميليشيات الشيعية، سيكون قادرا على حماية العراق والمنطقة والعالم من خطر الإرهاب.وأما الأكراد، فقد انقسموا بين إقطاعيتين لعائلتين احتكرتا السياسة والمال والمشاريع، بعد عقود من العيش على تجارة التهريب، حتى إذا ما ظهرت أحزاب سياسية تمثل جيلا جديدا، تم التنكيل بها، واعتقال نوابها، وإغلاق مقراتها، لأنها تحاول أن تمثل شعبا ليس له وجود.لا أحد يستطيع، بمن فيهم “السيد القائد مقتدى”، أن ينكر حقيقة أن المالكي، سواء عندما كان رئيسا للوزراء أو عندما كان رئيسا على رئيس الوزراء، أعطى الجميع حصته
وأما الشيعة، وهم شعب آخر، يضرب الهريسة، ويلطم على الحسين، بدلا من أن يلطم على نفسه، فقد أصبح لهم ممثلون أتقياء ورعون تقطر النزاهة من أصابعهم، مثل نوري المالكي ومقتدى الصدر وقيس الخزعلي وفالح الفياض وعمار الحكيم وهادي العامري، الذين وإن طالتهم الكثير من شبهات الفساد والاتهامات بارتكاب جرائم وحشية ضد “أتباع يزيد بن معاوية”، فقد انتهزوا وجودهم في السلطة لشن حملة إعمار، في حقل الكهرباء خاصة، إلى درجة أن العراقيين صاروا يستخدمون الإنارة في منازلهم حتى والشمس طالعة، وذلك من باب الإفراط والتبذير.
ونجحوا في إنفاق ما يبلغ مجموعه تريليوني دولار من عائدات النفط، خلال عقدين من الزمن، على مشاريع الصحة، حتى لم يعد يصيب العراقيين مرض، بعد أن جرّبوا كل مرض، والتعليم حتى أصبحت الأمية تخجل من نفسها لكثرة الأميين، ثم أنشأوا جامعات تخرّج فيها “دكاترة” لا علاقة لهم بالإملاء السليم. ثم ذهب ثلثها إلى إيران، وخمسها إلى المرجعيات التي ترعى مدارس لطلبة “الحوزة” الذين يغوطون في غائط الفقه الصفوي، لكي يستخرجوا منه عطرا في الولاء للإمام علي، والنظر في معجزاته وأسباب الخطأ الذي ارتكبه جبريل عندما أنزل الرسالة على غير المقصود بها. كما كان لأحزاب “الولاء” حصتها، وتوزع الباقي على الشعب الفقير، ولكن فقط من خلال الانتساب إلى واحد من جماعات الطائفة وأحزابها وميليشياتها.
ولكن شعب الأميين هذا وجد طريقا لاقتحام البرلمان. جلست أم حسين على مقعد الحلبوسي، لتوقّع أوراقا، ليس بتوقيع مما هو مألوف، ولكن بجرة شطب تميل عشوائيا على الأوراق التي لم تقرأ ما كان فيها. وهو على أيّ حال، الشيء نفسه الذي يفعله الحلبوسي، في الدلالة على أنه لا أحد أحسن من أحد.ورفع هذا الشعب الفريد شعارات فخمة من قبيل “كرامة الإنسان، من حب القائد مقتدى الصدر”، أي أن الإنسان الذي لم يسمع بقائد الأميين هذا، ولم يتعرف على مواهبه، فلا كرامة له، من طوكيو إلى دبلن.لم يعثر السنة على خير من محمد الحلبوسي وخميس الخنجر، وكانا بدورهما خير خلف لخير سلف ممن ورثوا مفاسد الغزو الأميركي للعراق وانحطاطاته
وجلس الشعب، للمرة الأولى في حياته، على مقاعد النواب، وتمدد بعضهم على الطاولات العريضة لكي تُلتقط له الصور في “بوزات” مختلفة، واستخدمت الجماهير مراحيض وحمامات لم يسبق للشعب العراقي في كل مراحل حياته أن استخدمها. وكانت أياما ممتعة للمحرومين حتى جاءتهم الأوامر لكي يخلوا قاعات البرلمان، وينصبوا خياما خارجه، وبدأ تنظيم أعمال الطبخ وتوزيع “التمن والقيمة” على “الجماهير الشعبية”، كما انتظمت الأهازيج والجولات الاستكشافية وكأنها جولات على سطح القمر، حملتهم إليها معجزات القائد وبراعته في “تحريك الجماهير”، حتى قال لهم “استغلوا وجودي لمكافحة الفاسدين”. فالفرصة – أي وجوده – إذا ضاعت فإن الفساد لن يبرح مكانه جاثما على صدور الجميع.
في بعض وقت سابق، كان هناك شعب يتظاهر على بُعد جسر ونهر من المنطقة الخضراء، ولكن شعب “السيد مقتدى” حمل لهم الهراوات والسكاكين، سعيا لتفريقهم وتمزيق عزائمهم على مواجهة الفساد وأحزاب العمالة لإيران. وكانت خشية “القائد مقتدى” هي أن أولئك المتظاهرين، ممن أصبحوا يمثلون “حركة تشرين”، سوف يسرقون منه وظيفته الأثيرة كمعارض. وهي في الأصل وظيفة إيرانية تقوم على أساس نظرية تبادل الكراسي، بين موالين يخدمون إيران، ومعارضين يحتلون مكانهم، عندما ترتفع رائحة العفن. وكلاهما يؤدي الغرض نفسه.
سوى أن نوري المالكي، هذه المرة، لم يرغب بتسليم السلطة، لأن غريمه يريد “تغيير النظام”، وليس السير على هداه. والمالكي هو مؤسس نظام المحاصصة الطائفية، وأثبت أنه مستعد للدفاع عنه، حتى ولو حمل السلاح بنفسه.ولا أحد يستطيع، بمن فيهم “السيد القائد مقتدى”، أن ينكر حقيقة أن المالكي، سواء عندما كان رئيسا للوزراء أو عندما كان رئيسا على رئيس الوزراء، أعطى الجميع حصته. ووزع عليهم المناصب وامتيازات النهب المنظم بالقسط والعدل، ولم يحرم ميليشياويا شيعيا لا من المال، ولا من تغطية الجرائم. فإذا بالخصومة الاصطناعية، تتحول إلى قتال، وإذا بها تتحول إلى تهديد شخصي، له ولنظامه، في آن معا.
جماهير الأميين لا تملك ذاكرة، لكي تستدرك. ولا عقلا لتفكر به أبعد من قدور “التمن والقيمة”. ومن المعروف أنها تلطم على الحسين، لكي تلطم على “القيمة”، أي حصتها، ولو الشحيحة، من المفاسد. وليس ممّا يشغلها أنها استفادت من نظام المحاصصة، عندما أصبحت شعبا مستقلا، تم “تحاصصه” هو نفسه بين الميليشيات، ولا علاقة له بالشعب العراقي البائد.يريد هذا الشعب تغييرا. إنما عن طريق توقيعات أم حسين وقيادتها.