عدنان حسين
تعد مقولة “المتهم بريء حتى تثبت إدانته” قاعدة ذهبية في الحياة القانونية والقضائية.. الجميع يتمسكون بها من أجل حفظ حق المتهم في البراءة الى أن يقوم البرهان الأكيد والدليل القاطع غير القابلين للطعن على ارتكاب المتهم الذنب المنسوب إليه.
لكن هذه القاعدة ليست ذهبية في الواقع ولا هي بالفضية أو النحاسية، فثمة العديد من الناس أدينوا وصدرت الأحكام الباتّة في حقهم تبيّن لاحقاً انهم أبرياء، وهذا يشمل أناساً لم يكن لبراءتهم اللاحقة أي معنى لأنهم أُعدموا، وآخر واقعة في هذا الشأن نشرت عنها وسائل الإعلام منذ أربعة أيام فقط، وهي تخصّ الصبي الأميركي الزنجي جورج ستيني الذي أُعدم في 16 حزيران 1944 بتهمة قتل طفلتين من العرق الأبيض قبل ذلك التاريخ بثلاثة أشهر.
يومها لم يقتنع كثيرون بان ذلك الصبي كان مذنباً برغم اعترافه بارتكاب الجريمة. قال البعض ان القضاء الأميركي كان متحيّزاً ضد الصبي الزنجي في بلاد كانت تتعامل مع الزنوج بوصفهم عبيداً وليسوا مواطنين. وظلّ بعض المحامين يسعى لإثبات براءة الصبي دون جدوى. ولكن في العام 2005 أعاد ثلاثة محامين البحث في القضية ونجحوا في توفير الأدلة على براءة الصبي ستيني الذي أكرهته الشرطة على الاعتراف بارتكاب الجريمة تحت التعذيب. وأمام الأدلة لم تجد القاضية كارمن مولينز بداً من فتح ملف القضية مجدداً لتأكيد براءة الصبي المغدور بعد سبعين سنة من إعدامه بالكرسي الكهربائي.. القاضية قالت إنها نظرت في القضية ليس فقط من أجل إثبات براءة الصبي ستيني وإنما أيضاً لكي تُعيد الولايات المتحدة، وبخاصة قضاءها، النظر في التاريخ وتحاول إصلاح أخطاء الماضي.
الخبر السارّ عن ثبوت براءة الصبي الأميركي الزنجي ذاع قبل يوم واحد من صدور الحكم في بغداد ببراءة كل من محافظ البنك المركزي المقال ظلماً وعدواناً قبل سنتين سنان الشبيبي ووزير الاتصالات السابق محمد علاوي، وهما كانا قد أدينا غيابياً في ما وُصفت بانها قضايا فساد إداري ومالي.
الشبيبي وعلاوي لم يكفّا يوماً عن تأكيد براءتهما، والإعلان بأن القضايا التي رُفعت الى القضاء في حقهما كانت كيدية.. وكما في حالة الصبي الأميركي الزنجي ستيني، كان هناك الكثير منّا قد دافع عن الشبيبي وعلاوي، استناداً الى معرفة شخصية بالرجلين والى سيرتهما المهنية. وهذه الصحيفة شكّكت في مناسبات عدة في دوافع الاتهام ضد الشبيبي خصوصاً، وكاتب هذه السطور كتب غير مرة مدافعاً عنه، وواحد من دواعي الدفاع ان الجهة التي اتهمت الشبيبي ومعه نائبه مظهر محمد صالح الذي بُرئ هو الآخر منذ أيام، وكذلك موظفون كبار في البنك اعتقلوا مدة طويلة وحُكموا بالحبس، لم تقدّم الدليل على ارتكابهم الجرم المنسوب اليهم، وان القضية كانت في الأساس كيدية.
دليل آخر قوي على براءة الشبيبي وصحبه ان اللجنة التي شكّلها مجلس النواب برئاسة نائب رئيس المجلس آنذاك قصي السهيل لم تنشر على الملأ نتائج تحقيقها، بل توفرت معلومات عن ان النتائج أبقيت طي الكتمان لأنها تُدين سياسيين، بينهم نواب، بغسيل الأموال خارج نطاق وصلاحيات البنك المركزي.
بعض الأساتذة في القضاء زعلوا منّا لأننا شكّكنا في عدالة ونزاهة بعض أحكام القضاء، ولم يكن لهم حقٌّ في الزعل، فنحن نريد لقضائنا أن يكون عادلاً ومنصفاً في أحكامه.. فكرة ان القضاء لا يخطأ غير صحيحة أبداً، وقضايا سنان الشبيبي ومحمد علاوي ومظهر صالح تثبت هذا، مثلما تثبته قضية الصبي الزنجي الأميركي جورج ستيني، وعشرات بل مئات من القضايا الأخرى، فالبشر خطّاؤون بطبيعتهم، والقضاة بشر.
والآن ربما يصير لزاماً تعديل قاعدة ان “المتهم بريء حتى تثبت إدانته” الى “المتهم بريء حتى تثبت عدم براءته”، لأن الإدانة ليست دائماً دليلاً على عدم البراءة.