عدنان حسين
من مفارقات الزمن الأغبر الذي نحياه الآن أن القادة العسكريين والأمنيين والسياسيين الذين كانوا وراء تسليم ثلث مساحة البلاد الى داعش ووراء مقتل الآلاف من المواطنين، وبخاصة الشباب المتطوعين حديثاً للخدمة في القوات المسلحة، مازالوا يحتلون مناصبهم ويتمتعون بالامتيازات (البعض القليل فقط منهم كانت أقسى عقوبة توجّه لهم هي الإحالة على التقاعد!!)، فيما القائد الأمني الذي “أبى تسليم جيشه ومعيته وناقلاته” ولم يكف عن القتال ضد التنظيم الإرهابي، يدفع منذ يومين ثمناً باهظاً لوطنيته ومرابطته في الخطوط الأمامية!
وزارة الداخلية نعت أمس في بيان “الشهيد البطل اللواء فيصل مالك الذي طالته أيادي الإرهاب والتكفير الظالمة وهو يدافع عن شعبه ومقدساته”، عندما انفجرت يوم الجمعة عجلتان مفخختان في تجمع للقوات الأمنية في قضاء بيجي. والشهيد هو آمر الشرطة الاتحادية في محافظة صلاح الدين. وأوضحت الوزارة في بيانها أن “الفقيد كان مثالاً للشجاعة الفائقة حيث أبى تسليم جيشه ومعيّته وناقلاته إبان تدنيس أرض الموصل وقاتل بشراسة الأبطال في كل قواطع العمليات، وساهم مساهمة فعالة في تحرير الأراضي المغتصبة في جميع مدن العراق التي شهدت الانتصارات الأخيرة”.
في مقابل هذا الأنموذج من الأبطال الذين يرابطون في الميدان ولا يفرّون كالفئران المذعورة، ولا يصدرون الأوامر وخيمة العواقب حتى لو كان الثمن حياتهم، فان “أبطال” الانسحاب “العظيم” من الموصل وسائر مدن محافظات نينوى وصلاح الدين والأنبار وكركوك وديالى الذين فرّوا كالفئران أمام “جرذان” داعش، لم تزل الغالبية العظمى منهم تحظى بالتقدير والتكريم وتحتل مواقع متقدمة في الدولة بمؤسساتها العسكرية والأمنية والسياسية.. ولو لم يتخذ القائد العام الجديد للقوات المسلحة، رئيس الحكومة، قراراً بإحالة بعضهم (فقط لا غير!) على التقاعد لظلّوا حتى اليوم أصحاب الحل والربط وصناع القرار والآمرين والناهين والمتحكمين بالمصائر في الدولة ومؤسساتها الأهم والأخطر!
هذه الحالة ليست فريدة في دولتنا في هذا الزمن الأغبر، فمعظم مؤسسات الدولة يتولى المسؤولية في قطاعات مهمة منها الآن “أصدقاء الرئيس” و”فدائيو صدام” ومنتهكو الأعراض وسراق المال العام والقتلة في العهدين البائد والحالي، في مقابل ان الآلاف من ضحايا هؤلاء من الوطنيين المتأهبين دوماً للتضحية، كما الشهيد اللواء فيصل مالك، مهضومو الحقوق ومتروكون مرة أخرى في هذا الزمن الأغبر للقسوة والعسف والتكبّر والصلف على أيدي القساة القدامى والجدد الذين وجدوا الطرق السالكة الى الأحزاب والميليشيات الحاكمة، والسبب ان الذين في أيديهم السلطة يفضّلون الفَسَدة من الانتهازيين والمتملقين ومسّاحي الأكتاف والأحذية الذين يقولون “بلي” لكل واحد وفي كل مناسبة وينفذون المهمات القذرة، فيضمنون مصالحهم وامتيازاتهم وسطوتهم، ويؤمّنون لأسيادهم مصالحهم وامتيازاتهم وسطوتهم أيضاً.
الحرب ضد داعش ليست قصيرة الأمد، وعدم محاسبة “أبطال” الهزيمة أمام داعش ليس بالقرار الحكيم الذي يعجّل في هزيمة داعش، مثلما ليس بالقرار الحكيم الإبقاء على مفاصل الدولة الرئيسة في أيدي الصداميين والفاسدين، أو اللهاث وراء الإرهابيين للمصالحة وعدم مصالحة الناس الجديرين بالتصالح معهم.