الناس تتحدث عما يجري في بيوت الناس، وقلما تتحدث عما يجري في بيوتها، والصحفي يدس أنفه في كل شيء، باحثاً مُنقباً مُستقصياً، مُحللا ومُقيماً وناقداً، لكنه لا يبحث عما تحت كرسيّه، ولا ما وراء هذا الكرسي، وما حوله , لقد نصّب نفسه، أو نصبّه من وظّفه، متحدثاً حصريّاً عن الحقيقة، باحثاً عنها بتجرد، ونكران ذات، إنه ممثل (السلطة الرابعة )، تلك السلطة الوهمية التي لم ينتخبها أحد، ولا يعرف أحد دهاليزها وتمويلها، ومن هم فرسانها الحقيقون، أولئك القابعون غالباً ما وراء ستار، يتابعون ، ويراقبون، ويسيرون الأمور بشكل مباشر أو غير مباشر.
لم تنشأ لدينا صحافة يقول الصحفي فيها ما يشاء، إلا ما ندر، مع فسحة للعب خارج النص ترضي غرور الصحفي إلى حد ما , نشأت الصحافة على أساس نقل الخبر، وبهذا المعنى لا يمكن تحديد زمن نشأتها. يمكن القول أن هذه النشأة كانت متلازمة مع حاجة الإنسان للمعلومة والخبر، اللذان يشبعان نهمه المتجدد دوما لمعرفة الأشياء، وما حوله، إتقاءاً للشر أو جلباً للمنفعة.
تنبه أصحاب الشأن في وقت مُبكر إلى أهمية هذه الوسيله في الإبلاغ والتأثير، فكانت الكنيسة أول من إستعملها لمد نفوذها عبر إيصال تعاليمها وأخبارها إلى المؤمنين كافة، وكان إختراع غوتنبرغ العبقري للطباعة نقلة نوعيّه وثورية في مجال النشر، ولم يكن من المستغرب أن يكون أول كتاب يطبع على مطابع (غوتنبرغ) هو الإنجيل المقدس، صحيح أن هذا الفعل لم يكن صحافة وإنما طباعة ونشر، إلا أن الصحف في هذا الوقت وما بعده إقتصرت على نقل الأخبار، دونما تعليق، إلا أن نقل الأخبار ذاته هو عمليه ليست محايده، إذ كان المعنيون ينقلون ما يريدون نقله، ويحجبون ما لا يرغبون بنشره، وأقتصر ما ينشر في الصحافة على الأخبار، وجلسات المحاكم، والبرلمان، ولم تعرف الصحافة الكتابة النقدية حتى عام 1780.
كانت السلطات، بالأخص المستبده، بعد إنحسار النفوذ الكنيسي، هي من أسهم في خلق الصحافة، وكانت الصحافة موجهه للنخبة، وليس لعامه الناس التي لم تكن تجيد القراءه والكتابة، فالوريقات الإخبارية (News sheets ) ظهرت أثناء حرب الثلاثين في إنكلترا، أما في فرنسا فقد كان ظهور أول صحيفة رسمية على يد ( ريشيلو) بعد توليه مقاليد السلطة عام 1631، ثم توالى ظهور الصحف في كامل أوربا، وعلى أيدي مستبديها، حتى ظهور الصحف اليومية ( في أنكلترا عام 1702، وأمريكا، 1704وفي فرنسا 1777 )، ومع ظهور الصحافة اليومية دخل غول الإعلان، ليكون وفي وقت مُبكر الممول الرئيسي للصحف، وبالتحديد منذ بدايات القرن الثامن عشر.
إزدهرت الصحافة بعد إنهيار النظام الإقطاعي، ونشوء نظام البرجوازيين المعتمد حينها على التجارة، وتوسع دورها بتوسع دول الإستعمار في العالم، وظهور الصناعات العملاقة، مما وسع من نطاق الإعلان، ومهد للصحف الصرف على آلاف المراسلين الصحفيين الذين غطوا أسقاع الدنيا، وكان من بينهم العديد من الجواسيس الذين تزيوا بالزي الصحفي، وإنتشروا في بلدان المستعمرات كظهير للمخابرات.
كانت الصحافة وسيلة وأداة للسلطات، ومن ثم للبرجوازيين، فمتى أضحى بعضها وسيلة للثوريين؟
ظهرت بدايات الصحافة الثورية مع الثورة الفرنسية، كومونة باريس، حيث لم يعد الصراع فقط بين الكنيسة والأقطاعيين من جانب، والبرجوازية الناهضة من جانب آخر، وإنما اضحى بين المُستغِلين والمُستَغلَين، ثم في روسيا نهايات القرن التاسع عشر، ولم تكن الصحافة الثورية أكثر من بيانات ثورية توزّع غالباُ سرياً، وتعتمد في إستمرارها وديمومتها على تبرعات الثوريين، لكن تأثيرها في المثقفين الثوريين كان عظيماً.
ويمكن تحديد ثلاث أنماط من الصحافة، صحافة السلطة، حزبية وغير حزبية، وصحافة الرأسماليين، حزبية وغير حزبية، والصحافة المعارضة، حزبية سرية، وعلنية، ويمكن إضافة صحافة المؤسسات العلمية والمهنية، والنقابية، وصحافة الفضائح والسمسرة، والمجون والتهتك، وصحافة الهش بش، فإذا كان الأمر على هذا الشكل فكيف أضحت الصحافة سلطة رابعة؟
صحافة السلطة هي سلطة أولى، وصحافة الرأسماليين هي سلطة رأس المال، وصحافة الأحزاب المعارضة، هي المعارضة التي تبحث عن السلطة، فأين هي السلطة الرابعة؟
السلطة الرابعة كذبة صدقها أول من صدقها من أطلقها، وهي وهم، أما حرية التعبير فهي شيء آخر، أهم وأكبر من الصحافة، وما الصحافة بكل ألوانها وأشكالها سوى تفصيل صغير لها.
يعود ظهور مصطلح ( حرية التعبير) ، إلى الثورة التي أطاحت بالملك الإنجليزي جيمس الثاني عام 1688 حيث أصدر البرلمان البريطاني قانون حرية الكلام في البرلمان، ومن الطبيعي أن يكون النضال من أجل حرية التعبير سابق على هذا التأريخ، لكن حرية التعبير، أو الكلام حسب تعبير البرلمان البريطاني، تتوجت في البرلمان بقانون يبيح للبرلمانيين فقط هذه الحرية، فيما بعد أكدت لائحة حقوق الإنسان على حرية التعبير بعمومها، ليس للبرلمانيين فقط، ولا للصحفيين كما يتوهم البعض، وإنما للجميع، وعبر كل اشكال التعبير، بالكلمة ، والصورة والصوت، والإحتشاد، وبأي أداة تكون وسيلة للتعبير، إلا أنه تم التضيق عملياً على هذه الحرية من خلال دخول المال السياسي إلى عالم الإعلام، ومنذ عقود في منطقتنا، أما في العالم فمنذ سادت الرأسمالية .
لقد سعى الرأسمال لتطوير الصحافة شكلاً لا مضموناً، وقد أفلح في هذا إلى حد بعيد، بحكم قدرته اللامتناهية على الإنفاق، مما جعل مهمة إصدار صحيفة أو أي وسيلة إعلامية أمر لا يقدر عليه إلا ذاك القادر على إنفاق الملايين، وقطع الطريق أمام ظهور صحافة شعبية حقيقة وطبيعي أن هذا التطور جاء على حساب حرية التعبير، حيث أسهم في تزييف رأي الناس، وأحل نفسه، وبأستغفال منقطع النظير، ناطقاً باسم الجماهير، لا بل نصبّ نفسه، وهو الذي لا يدري أحد كيف جمع ماله، ولا من أين، سلطة رابعة، أكبر من السلطات الثلاث.
ليس أكثر من وصف الصحافة بـ( السلطة الرابعة ) هُزالاً سوى وصفها بـ( صاحبة الجلالة ) وهو لقب ملكي لا ينسجم مطلقاً مع كونها مُعبرة عن نبض الجماهير، وحركة المجتمع، فصاحبة الجلالة من مخلفات زمن باد أو كاد، ولا يربطها بحرية التعبير إي رابط ، وصاحبة الجلالة في زماننا إما آيلة للسقوط والإنقراض، أو مجرد ديكور أو بقايا فلكلور.