غفران حداد
لم يكن المكان يوما مجرد تضاريس وحجارة وجغرافيا، بل هو أحد مكونات وأركان الوجود في هذا العالم، ويتشكّل وجوده بحضور الزمن والشخصيات، وفي أحيانٍ كثيرة يتعلق الإنسان بالمكان ارتباطاً وجودياً وفلسفياً يصعب تفسيره، وفاة معظم المكتبات في بيروت مثل مكتبة (واي ان) التي تحولت إلى متجر لبيع الأحذية، وقبلها أقفلت مكتبة (البرج) و(خياط) في وسط بيروت ومكتبه (راس بيروت)،وتحولت مكتبة (النهار) قرب مصرف لبنان في الحمرا إلى نوع من الذكرى تبيع ما تبقى من كتب في المستودعات، وأقفلت مكتبة (ناشرون) في مبنى ريبيز ومكتبة (النجمة) في شارع المقدسي، هكذا حال الأمكنة الثقافية في بيروت، سائرة نحو التأزم وباتت في طريق الانقراض، فمنذ الأزمة الاقتصادية في عام 2019 وأمكنة المثقفين وعشاق الكتب تحولت إلى محال تجارية ولم يعد باستطاعة الكثير من دور النشر عرض كتبها.قبل أيام قليلة أعلن إغلاق مقهى زرياب في دمشق القديمة وخيّم الحزن على مرتاديه ومحبي المقهى بعد إعلان صاحب المقهى (برنار جمعة) في أسطر رثاء عبر صفحة المقهى الرسمية جاء فيه: ( بعد 13 سنة من الذكريات والمشاعر المختلفة التي حاول زرياب أن يحتضنها ويقدمها كمساحة حملت الكثير من النجاحات والخيبات ولأن لكل رحلة نقطة نهاية نحو بداية أفضل، نأسف بأن نبلغكم أن يوم الأحد 27 من عام 2023 سيكون اليوم الأخير لمقهى زرياب على أمل اللقاء في رحلة جديدة ووقت قادم) .من لم يدخل مقهى زرياب يظن أن مشاعر الحزن والفراق إزاء جدران صماء بكماء وطاولات قدمت عليها وجبات مطبوخة منزلية كل يوم، فيها شيء من المبالغة، ولكن التعلق بالمكان لا يأتي من فراغ، كل سائح زار دمشق لأول مرة، يحثه أصدقائه على ارتياد مقهى زرياب. بعد مشاوير كثيرة وعناء يوم طويل، تكون لديك رغبة جامحة بارتشاف أكثر من فنجان قهوة وتدخن بشراهة، يلفت حواسك ليس فقط طعم المأكولات الدمشقية، بل كيف أن الكتابة لدى المثقفين تنبثق من الكراسي وسقف الخشب والحجارة البيضاء الناتئة، رفوف هنا وهناك تلقي عليك التحية لتقترب منها، كاميرات قديمة، فوانيس ملونة وشرائط كاسيت لمطربين يعود صنعها للزمن الجميل الذي انتهى قبل عقود، وأعواد موسيقى قديمة تعزف لكَ ألحاناً طربية، وكتب قيّمة ضمن رف حجري داخل أحد الجدران تجذبك كالمغناطيس لتتصفحها، عشق المرء للمكان ليس ما يلمسه ويعيشه في الواقع، بل يتعلق حتى بالأمكنة التي يقرأها في رواية، فالروائي هو من يرسم ويصنع في كتاباته مدناً وأمكنة من خياله ليقدمها للقارئ في سطور بعيدة عن الواقع يتعلق بها ويشد الرحال معها.ماذا نفعل اليوم في صداقة الأمكنة التي تودعنا إلى غير رجعه، خبر إغلاق مقهى زرياب في دمشق، جعل مشاعرنا خليطا بين الألم والغربة والحنين، هي ذاتها التي اجتاحتني عندما سمعت بخبر إغلاق مقهى (الويمبي)، إنها ليست أسماء عادية يا سادة، إنها جزء من ذاكرة دمشق وبيروت الثقافية السياحية السياسية، إنها جزء من كيانك، من ذكرياتك، لقاءاتك بصداقات تبقى في الوجدان، المسألة ليست فراق الحجر وليست نوستالجيا حالمة مفصولة عن الواقع الاقتصادي المنهار، دمشق وبيروت تتشاركان في الكثير من الهموم اليوم، فهل علينا نسيان ذكرياتنا في مقهى زرياب ونبدأ في نسج ذكريات جديدة مع مقهى جديد لو زرنا دمشق في المرة المقبلة، وربما ستتغير ملامح المكان ونفتش على جميع الأزقة المؤدية إليه ولا نجدها، مثل حال مكتبة (نوبل السورية) الواقعة مقابل فندق الشام وسط العاصمة دمشق، هذه المكتبة التي ولدت في سبعينيات القرن الماضي وكانت معلماً ثقافياً ولها فضل على ملايين الناس الذين اقتنوا من كتبها، التي زادت من جمالية بيوتهم ومن معرفتهم ومعرفة أولادهم بعدهم، لكن ملامح المكان تغيرت وأضيفت إلى سلسلة من المكتبات الشهيرة التي أغلقت في دمشق مثل مكتبة (ميسلون) المجاورة لمكتبه نوبل ومكتبة (اليقظة) عند مقهى الكمال التي تحولت إلى محل لبيع الأحذية أو مكتبة (الذهبي) التي تحولت لمحل شعبي لبيع سندويشات الفلافل، مكتباتنا العربية رويدا رويدا تتحول من قِبلة للكتّاب والناشرين إلى معقل للنراجيل، ومقاهينا العريقة التي كانت مكاناً أثرياً وتراثياً وملتقى للمغتربين العرب والأجانب تتحول إلى مكان مهجور مغلق لا حياة فيه.في أيام الحرب العالمية الثانية أصدرت الحكومة البريطانية تعليمات بضرورة إبقاء جميع المسارح والسينمات والمكتبات والمقاهي مفتوحة أمام الناس لكي يحافظ الشعب اللندني، على توازنه النفسي والفكري في ظل تساقط القنابل الألمانية اليومية عليهم، واليوم في ظل الحرب الاقتصادية والإقليمية والوضع الأمني الهش في بعض عواصمنا العربية، هل من أحد مهتم بالحفاظ على توازننا النفسي والفكري؟.