صرخة وعي من تحت أنقاض غزة

صرخة وعي من تحت أنقاض غزة
آخر تحديث:

بقلم:علي الصراف

الرئيس الفلسطيني محمود عباس ليس سوى جثة سياسية لم تُدفن بعد. وهو لا أكثر من موظف سلطة بلدية لدى إسرائيل. إلا أنه مازال موضع رهانات، توحي بأنه يمكن أن يتولى إدارة غزة، تحت إشراف أمني إسرائيلي.لو كان عباس مقبولا في الضفة الغربية لكان يمكن للأمر أن ينطوي على معنى. ولو كان عباس نجح في توفير الأمن لإسرائيل، وهو في عقر داره، لكان من الجائز القول إنه سوف يوفر أمنا لها في غزة. ولو كان قادرا على السيطرة على المجموعات المسلحة في فصيله نفسه (فتح) لكان من الممكن الثقة به.ولكن عباس مرفوض في الضفة. وفشل في أداء واجباته الأمنية تجاه إسرائيل. والمقاومة المسلحة داخل حركة فتح، فضلا عن باقي المعارضة فيها، تنتظر موته.كان بوسعها أن تقتله في أي وقت، إلا أنها تستكثر عليه أن يحظى بلقب “شهيد”، وهو لا يستحقه.

ومن الواضح أنه رجل ميت على أي حال. يؤثر الصمت، ليس لأنه “بين نارين”، بل لأنه يدين نفسه مع أول كلمة ينطقها، أيا كانت. ولا يثق به أحد، حتى ولو قال لا إله إلا الله.وإسرائيل تريده على هذه الصورة. مشروعها لن يكتمل إلا بوجود جثة مثله تقدر على امتصاص الركلات، من دون أن تشعر بشيء.ولو أن انتخابات أجريت في غزة، بعد انتهاء الحرب، وترشح لها عباس في مقابل لا أحد، فإن “لا أحد” هو الذي سوف يفوز بالأغلبية الساحقة. وعباس لم يجر انتخابات منذ انتهاء ولايته في العام 2009 أصلا، ليحكم مطمئنا إلى رعاية إسرائيل له، رغم أنها ظلت ترفض التفاوض معه، حتى صار أقصى ما يطمح إليه هو أن يحظى ليس باستئناف مفاوضات السلام وإنما بـ“أفق” لها، لكي يعيش على أوهامه ما بقي له من الوقت. وهو يستهلك الأوكسجين بلا فائدة أو مبرر.

والقول إنه يمكن أن يحكم غزة قد يكشف عن مدى توغل الأوهام في الولايات المتحدة. إلا أنها ليست أوهاما فقط؛ إنها خطط. فالوهم قائم في رام الله بمسمى “سلطة”. وهو جزء من مخطط يستهدف إفراغ الوجود الفلسطيني من نوازع الدعوة إلى الاستقلال أو حق تقرير المصير. وهذا ما يراد له أن يكون في غزة.التمردات المسلحة المحدودة في الضفة الغربية، من وجهة نظر إسرائيل، أمر يمكن السيطرة عليه، ولا تشكل تهديدا فعليا للتوسع الاستيطاني. وجثة الرئيس تتحمل الركلات هناك، بمقدار ملموس من سعة الصدر. وهو ما تعرفه جنين على أي حال، حتى بات من المخيف لـ“الرئيس” عباس أن يذهب إلى مخيمها. وعندما حاول للمرة الأولى بعد 11 عاما من الخوف خرج منها مطرودا، لائذا بحراسة مشددة، يوفرها له رئيس جهاز المخابرات العامة اللواء ماجد فرج.

“الحلول المؤقتة” أو “أنصاف الحلول” لأجل التفاوض أبد الدهر على أنصافها الأخرى هو كل ما تسعى إليه إسرائيل والولايات المتحدة. هذان الطرفان في سباق مع الوقت. اُنظرْ في مسار السنوات منذ توقف المفاوضات على أساس اتفاقات أوسلو، وسترى أن نحو ثلاثة عقود من الزمن قد وفرت لإسرائيل الكثير.وفقًا للبيانات المقدمة من مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي، كان هناك في نهاية عام 2000 حوالي 190 ألف مستوطن يعيشون في المستوطنات في الضفة الغربية. ويوجد الآن أكثر من 450.000 مستوطن. أما في القدس الشرقية فقد كان هناك في نهاية عام 2000 نحو 172 ألف مستوطن، وارتفع عددهم الآن إلى أكثر من 220.000 مستوطن.

عباس الذي تولى السلطة في يناير من العام 2005 مسؤول عن هذه النتيجة. وبقاؤه يتنفس، لو أمكن لـ18 سنة أخرى، سوف يقضي على كل شيء اسمه شعب فلسطيني، وليس ذلك الشيء الذي كان يدعى “قضية فلسطينية” فقط.حماس ليست أسوأ الحلول، حتى وإن لم تكن أفضلها. لأنه لا يوجد أسوأ من سلطة “الرئيس” عباس أصلا. إنها سلطة فساد واستبداد من جهة، وشلل سياسي وعطالة فكرية من جهة أخرى. راهنت على اتفاقات أوسلو، فلما تم قتلها على أرض الواقع لم تعد تعرف ماذا تفعل.

الخيارات الانتحارية ليست هي الحل الأمثل. لأنها بالتعريف تقود إلى ما تقود. صحيح أنها تُبقي القضية الفلسطينية قضية ملتهبة بما تستهلكه من بشر وحجر، إلا أن إستراتيجيات الاحتلال والتوسع الاستيطاني لا تأبه بالضرورة لما يلتهب من المشاعر.هناك واقع يجري إملاؤه على الأرض بالعنف والتعسف والقوة، لصالح سبعة ملايين مستوطن، ولا يضيره أن يخسر بضع مئات من الجنود، وظيفتهم الأساسية هي أن يموتوا من أجل ما يُملى على أرض الواقع.كل ما تتمناه حماس الآن هو أن يجري وقف إطلاق النار لترث خرابا وتحسبه نصرا. والخراب سوف يدوم دهرا. وإسرائيل تصنعه من أجل سباق الوقت إياه. تنشغل غزة عشر سنوات بالبحث عن إعادة إعمار، بينما تستكمل إسرائيل مشروعها الاستيطاني، بما قد يشمل غزة نفسها.

وحيث أن سلطة عباس ليس لديها حلول، فإن خيارات حماس تبدو وكأنها هي الحل الوحيد. وهي كذلك فعلا.هذا الواقع هو نفسه ما يُفضي إلى القول إن الفلسطينيين، في قضيتهم وليس في أجساد ضحاياهم فقط، يدفعون ثمن الفشلين – الخيارين معا: غياب الحلول، أو الحل الأسوأ.الكل يتحدث الآن ويدافع عن “حل الدولتين”، ويدعو إلى تجديد المفاوضات بشأنه. حماس نفسها سوف ترضى بذلك. ولكن إذا لم تثبت ثلاثة عقود أنه وهم، فإن ثلاثة عقود أخرى لن تقدم نتيجة أفضل.أغبى الخيارات هو أن تكرر الشيء نفسه، وتتوقع نتيجة مختلفة.

لو كانت خيارات “الدولة الواحدة” هي التي شغلت جدول الأعمال الفلسطيني طيلة هذا المقدار من الوقت، فهل كان دمار غزة سيكون هو الثمرة؟ وهل كان التوسع الاستيطاني هو العقبة؟ وهل كانت أعمال العنف والتعسف هي العاقبة الوحيدة التي ينتظرها الفلسطينيون بين سلطة احتلال وسلطة فساد؟مؤسف تماما أن الخيارات الفلسطينية ظلت تغفل عن أهم مصادر قوتها.ربما تشير الديمغرافيا الفلسطينية في الضفة وغزة والداخل إلى بعض هذه القوة، ولكن ليس بوصفها “قنبلة ديمغرافية” كما يريد لها هواة القنابل أن تكون.

إلغاء السلطة الفلسطينية كان سيلقي بكل أعباء هذه الديمغرافيا على إسرائيل. كان سوف يحيي قضية الحقوق والحريات وقيم العدالة والمساواة، كما كان الحال في جنوب أفريقيا العنصرية. والمقاومة السلمية قد لا يكون بوسعها أن توقف عمليات الاستيطان، ولكن “دولة لشعبين” كان سيظل بوسعها أن تحيي الأمل بفلسطين كلها، من البحر إلى النهر.كان يمكن لغزة، في صراع السبعة ملايين فلسطيني من أجل الحرية والمساواة في “الدولة الواحدة”، أن تقف لتتنظّر وتتفرج، على الأقل.

غزة، بعزلتها وانفصالها النسبي، كان بوسعها أن تبقى ظهيرا لهذا الأمل. إلا أنها اختارت أن تهدمه وتهدم نفسها معه. ربما لأن مسار اليأس على الضفة التي يحكمها عباس كان هو “خيار” البؤس والفشل.هذا القول ليس انتقادا لخيارات حماس، وهي في غمرة القتال والمآسي. إلا أنه صرخة وعي، لعلها تنهض من تحت الأنقاض في الضفة وغزة معا.أعرف شيئا واحدا عن الحرب: أن تخوضها لتنتصر، وأنت تعرف تماما ما ينتظرك. لا أن تخوضها لتطلب وقفا لإطلاق النار.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *