تتلازم صورتا القراءة والكتابة تلازماً أصيلا على نحو يجعل منهما وجهين لعملة واحدة، وممارستين فاعلتين من الممارسات الإنسانيّة الجماليّة الخلاقة تعبيراً عن مجتمعات راقية في ثقافتها ورؤيتها للأشياء، وإذ كانت صورة القراءة متاحة للعموم بوصفها حاجة ورغبة وتقليداً ومصدراً من مصادر الفرح والبهجة والفائدة، فإن الكتابة غير متاحة بالتأكيد سوى لثلة ممن يمتلكون الموهبة والاستعداد والخبرة والحضور، لأنها تحتاج إلى أدوات كثيرة لا يتمكن من الحصول عليها إلا القليل النادر من البشر.تتجلّى هذه الأدوات في سياقات خاصّة تؤدّي وظائف عالية الأداء لا يمكن لغيرها أن تقوم بها أو تنتجها، وهي ماكثة دائماً في صندوق خاصّ بالكاتب له مفتاح واحد ووحيد يظلّ في حوزة الكاتب إلى حين الفرصة السانحة للاستخدام، ولا يمكن لآخر غير الكاتب أن يفتح هذا الصندوق ويحسن استخدام أدواته واستثمارها؛ في إنتاج كتابة قادرة على أن تحتلّ لها مكانة تحت الشمس لها تأثير عميق في الما حول، فماذا يحوي هذا الصندوق العجيب يا تُرى، وهل بوسع الكاتب فتحه في أيّ وقت؛ أمّ أنّ ثمّة مواعيد بعينها يعمل فيها المفتاح فقط ولا يعمل في غيرها لأسباب واضحة حيناً وغامضة حيناً آخر. لا يمكن بأيّ حال الاطلاع على محتويات الصندوق بالدقّة المطلوبة في أيّ وقت ولأيّ غرض، لأنّ هذه المحتويات تتألّف من شبكة أدوات تتموّج بين الحضور والغياب، الوضوح والغموض، القرب والبُعد، على نحو يتفاعل عميقاً مع لحظة الكتابة ومنهجها وفرادتها وخصوصيّتها، وللكاتب يدٌ سحريّة تعرف ماذا تريد من أدوات داخل الصندوق؛ فتذهب مباشرة إلى الأداة المطلوبة من دون تفحّص كثير وعناء بحثيّ كبير، إذ تعمل الحساسيّة الخاصّة هنا بطريقة تبدو عفويّة غير أنّها تنهض على مهيمنات عارفة تؤدّي دورها بدقّة فائقة.ثّمة طاقة لمسيّة بارعة تجعل اليد الكاتبة في أعلى درجة من التحسّس لالتقاط ما تحتاج من أدوات مناسبة في الوقت المناسب والمكان المناسب والرؤية المناسبة، بينما حين ترتفع الأداة في هذه اللحظة إلى أعلى درجات الاستجابة كي تتحقّق فعاليّة تلاقٍ قصوى بينهما، فقد تتمكّن عندها بقوّة وندرة واستثناء من إنجاز ما لا يمكن إنجازه في أيّ لحظة أخرى؛ خارج هذا التعاطف المزدوج بين الأداة الكتابيَّة واليد الكاتبة، بما يجعل من هذه اللحظة شديدة الفرادة والخصوصيَّة بحيث لا تتكرّر مطلقاً مهما تكرّرت العوامل المساعدة المرافقة لها. يبقى صندوق الكتابة مغلقاً على الدوام ولا يُفتَح إلّا في تلك اللحظة التي يجد الكاتب فيها أنّه لن يتمكّن من عمل شيء سوى الكتابة، هنا يبدأ الصندوق بالحركة استعداداً لاستقبال المفتاح والسماح له بالمرور كي ينفتح الصندوق تحت يد الكاتب، ومن ثمّ يتحقّق التواصل بين يد الكاتب وشبكة الأدوات الماكثة في جوف الصندوق وقد صارت على أهبة الاستعداد للاستجابة، إذ تنشط الأدوات كلّها في وقت واحد وتشحذ إمكاناتها لتكون مهيّأة حين تُستدعى للعمل على وفق الحاجة إليها في اللحظة المناسبة، وبمجرّد أن تلتقطها يد الكاتب تكون في حاضرة الكتابة وقد استنفرت طاقاتها للدخول في جوّ الكتابة ومعتركها. هل تختلف الكتابة بحسب طبيعة النوع الكتابيّ ومنهجه وطريقته الخاصّة في التأليف؟ ثمّة أعراف كتابيّة عامّة تشترك فيها أدوات لا بدّ من حضورها في الأنواع الكتابيّة الإبداعيّة كافّة، وأعراف أخرى تخصّ النوع الكتابيّ الإبداعيّ المعيّن على وجه الخصوص، فالجودة الأسلوبيّة المطلوبة تمثّل جوهراً أصيلاً لا يمكن التنازل عنه في أيّ فنّ إبداعيّ كتابيّ لأنّه ضمان حقيقيّ لنجاح العمل، ومن دونه يفقد الفنّ الكتابيّ عنصراً أكيداً من عناصر التشكيل الأساسيّة التي يتوقّف عليها مستقبل العمل في حاضنة القراءة، في حين ثمّة أدوات تصلح للكتابة الشعريّة ولا تصلح للكتابة السرديّة بحكم طبيعة الجنس الأدبيّ وآليّات كتابته. تعتمد الكتابة الشعريّة مثلاً على الجملة المركّزة المشحونة بالترميز والتدليل على نحو شديد الكثافة، بينما تقوم الكتابة السرديّة على الجملة المريحة المعبّرة عن موقف لا يحتمل التكثيف العالي الإشاريّ العلاميّ مثلما هي في الشعر، وتعتمد الجملة في الكتابة الدراميّة على أعلى قدر من الوضوح والإبانة كي تُستلَم من المتلقّي في حالة تحويلها إلى مسرحية بسهولة ونعومة، وهكذا يقدم صندوق الأدوات ما تحتاجه الكتابة على وفق نوعيتها وطريقتها ومنهجها وسياستها الكتابية، بما يخدم الفكرة وعناصر التشكيل ومكوّنات الفنّ الكتابيّ على مستوى البناء النصيّ أوّلاً؛ ومن ثمّ على مستوى الخطاب حين يصل النصّ إلى فضاء التلقّي. يظلّ صندوق الأدوات الخاصّ بلعبة الكتابة بعيداً عن متناول الكاتب ما لم يبقى محتفظاً بمفتاحه الخاصّ، هذا المفتاح الذي لا يمنح نفسه بسهولة ولا ينقاد ولا يعمل إلّا في لحظات خاصّة يدرك فيها أنّ المجال الحيويّ متاح تماماً لذلك، فينبري متّقداً ويعلن عن وجوده ليكون جاهزاً تماماً في يد الكاتب وهو يتقدّم بخطى ثابتة نحو صندوق أدواته، حيث تكون الأدوات نفسها في أعلى درجات الاستعداد للقيام بما يلقى على عواتقها من مهام، بما يجعل الفضاء الكتابيّ بأكمله في الصورة المرجوّة التي يكون بوسعها فعلاً إنتاج ما لا يمكن إنتاجه إلّا بهذه الطريقة.