آخر تحديث:
بقلم:رشيد الخيّون
اشتهرت مدن ونواح عراقيَّة، بعد (2003)، في الإعلام العالميّ، في وقت كانت خافية على العراقيين أنفسهم، وربّما أهلها لم يعرفوا بتاريخها وتفاصيل جغرافيتها، وهذه ناحية “جرف الصَّخر” الأبرز اليوم، بعد تحولها مِن بؤرة لـ”القاعدة” و”داعش” إلى عاصمة لميليشيات عراقيّة العدد والعدة، وإيرانيَّة القيادة والولاء، وأخطرها “كتائب حزب الله”، وبالتالي ليس مجازاً أن تُعد مركزاً إيرانياً، يديره الجيش الثّوريّ الإيراني، ومكتب الولي الفقيه خامنئي، وذلك منذ 2014 إلى يومنا هذا.
أمسى هذا الجرف عاصمة قائمة بذاتها، أكثر استقلالية من دولة الفاتيكان داخل روما، بعد تهجير سُكانه بالكامل، وهذه السّنة العاشرة، وهم يقيمون في ثكنات اللاجئين، ومعظمهم مِن عشيرة الجنابيين، ومِن أهل السُّنة، وهنا لا بد مِن التوضيح، لا “داعش” ولا “القاعدة” تمثل السُّنة، ولا الميليشيات تمثل الشّيعة، فالاثنان قتلوا ما قتلوا مِن الطائفتين، والاثنان أيضاً دخلا مِن مركز واحد، وهو الحدود السُّوريّة العراقيّة، أولئك دخلوا أفواجاً أفواجاً منذ لحظة سقوط النّظام السّابق، وأولئك عدوا لتكون المواجهة، وتقديم العذر بتأسيس حرس ثوريّ داخل العراق، وها هو قوامه نحو سبعين ميليشيا، ونواته “كتائب حزب الله”، وعاصمته جرف الصّخر.
يُنقل ضحايا “كتائب حزب الله” إلى معتقلات تلك النّاحية، ويُنفذ فيهم القتل هناك، عاصمة حصينة، منها انطلق القناصون، لقتل شباب تشرين (2019)، ومنها انطلقت مفارز متابعتهم، وسمعنا وشاهدنا مؤسس هذه الكتائب قالها بلا وجل ولا ما يوخز ضميره: “علينا بالرُّؤوس”، لكنه الآن يُعد مِن الشّهداء (شهداء النّصر)، وعلى ذوي ضحايا التّظاهرات أن يمروا تحت الجداريات، تعظيماً لمِن افترس أبناءهم.
بعدما حرر الجيش العراقيّ ناحية جرف الصّخر، وعقمها مِن عفن “داعش”؛ وصل إليها وفد محمد كاظم الحائريّ، صاحب (213) فتوى قتل، جمعت ونُشرت في كتاب “دليل المجاهد”، وهذا الرّجل الظلاميّ، وهو بالأساس كان منتمياً إلى حزب “الدّعوة الإسلاميَّة”، يتبع ولاية الفقيه الإيرانيّة، وهو نفسه إيرانيّ، مخلص لها، ومنذ تلك اللحظة (تشرين الأول 2014) دُشنت ناحية جرف الصّخر قاعدةً وعاصمة لإيران، لا يُسمح لرئيس وزراء أو وزير أو موظف أو برلماني عراقيّ، مِن غير أتباع ولاية الفقيه، دخولها، ناهيك بالجيش العراقي والقوى الأمنية كافة.
أنشئت في هذه النّاحية معتقلات للعراقيين الشاعرين بوطأة الاحتلال الإيراني، الجلي وليس الخفي، ومصانع حربيّة، وكل ذلك بأموال العراق، فحصة الكتائب وأخواتها مِن الموازنة مليارات تُقطع مِن صحة العراقي وتعليمه، وكل هذا لأجل أن يبقى نظام الولي الفقيه معافى.
تقع جرف الصَّخر شمال محافظة بابل (الحلة)، جنوب بغداد بنحو ستين كيلومتراً، تتبع قضاء المسيب، والأخير بدوره يتبع إدارياً محافظة بابل، فبعد حلول بركات صاحب فتاوى القتل محمد كاظم الحائريّ، بزيارة وفد مرجعيته، وله في العراق اثنا عشر مكتباً، على جرف الصّخر تحول اسمها التَّاريخي إلى “جرف النّصر” وهذا بقرار مِن مجلس محافظة بابل، ونِعم النّصر على “داعش” وجماعات الإرهاب كافة، لكنَّ المشكلة بتزوير هذا النّصر، أنَ يُباركه رجل لا يقل إرهاباً من “داعش” نفسها، وأن يُسلب مِن الجيش العراقي، وأنقياء الحشد الشعبي، ويوظف للحرس الثوري، كي تكون جرف الصخر، باسمها الجديد “جرف النصر” عاصمة إيرانيّة داخل العراق، بعدما عجزت ولاية الفقيه عن إقناع النجف وكربلاء بمشروعها، وكان رد فعلهما أن قام شبابهما بحرق قنصلياتها. فطاردتهم مفارز مِن “جرف النّصر”، واغتالتهم واحداً بعد واحد.
نشرت مجلة “التّراث الشّعبيّ”، عدداً فاخراً، حافلاً بتأريخ تُراث نواح ومدن عراقيّة، ما كنت أشعر بأهمية هذا العدد بالذات (الأول من السنة الثالثة والثّلاثين 2002) إلا بعد الحاجة لمعرفة تاريخ مناطق، كثر الحديث عنها، وكلٌّ يفتي بفتواه.
تأتي أهمية ما كتبه قيس كاظم الجنابيّ تحت عنوان “ملامح مِن تاريخ جرف الصّخر وتراثها الشّعبيّ”، أنه نُشر قبل أن يتحول العراق إلى مكان الاصطفاف والاختلاف بين إيران وأميركا، لتكون أرض العراق مكب زفرات النّظامين، وقبل أن تُفجر القبة العسكريّة في سامراء (2006)، وينجح مشروع حرائق الطّائفيَّة، وإلا فما كُتب في ما بعد كان كثيراً.
عرفنا شيئاً عن تاريخ جرف الصّخر، بفضل هذه المقالة التي جمعت المتناثر عنها، نُحتت التّسمية من وجود عدة “سنون” أو “أسنان” في المنطقة، على يمين نهر الفرات: سن أبو عوف، وسن دهيمش، وسن بطاح، وسن تليل (تصغير تل) الجص، وسن حمد، فاتُّفق عليها باسم “جرف الصَّخر”، بعد أن كانت تُسمى بالجروف.
تتكون مِن ثلاث مناطق: الباج الشّماليّ والجنوبيّ، والحجير، وهو موقع أثري، والفارسيّة، التي صار اسمها “القادسيّة”، مع تغيير اسم الدّيوانيّة إلى القادسية، ورد اسمها خلال الاحتلال البريطاني الأول للعراق (1917)، ونقول الأول فالثاني وقف عند البصرة (2003). افتتحت فيها مدرسة عام 1931، فقال معلمها أحمد أفندي آنذاك حاثاً على تطويرها وتوسيعها، ما يشبه الأهزوجة: “نحن طلاب الجرف/ نستحق كل العطف/ يا شيوخ ويا كبار/ يا سراچيل (سراكيل نواب الشيوخ) الدّيار/ نحن أطفال صغار/ عاملونا باللُّطف/ عاونوا هل المدرسة/ هية جنة مؤنسة/ نتعلم فيها القرآن/ كلّ واحد منا فرحان/ يا ربنا نرجو الغفران/ أنت الرّحيم إتعطفْ”.
تُعد جرف الصّخر، اليوم، أو مثلما سموها بـ”جرف النّصر” منطقة محرمة، خاصة بـ”كتائب حزب الله”، فأهلها ما زالوا في مخيمات اللاجئين في الموصل، وربَّما سيأتي يوم ويُطلق عليها الجرف المقدس، فالميليشيات التي فشت بالدّم العراقي وخرابه، سميت بالمقدسة، ولم يبق مِن الحشد (المقدس غيرها). لم يُسمع من جرف الصخر غير صوت إذاعة إيران، الصوت الأعلى مِن صوت الدّولة العراقيّة، فالعراق صار محتلاً إيرانياً، وهو الاحتلال الأغرب في التّاريخ.
فأشكال الاستعمار أو الاحتلال وأنواعه معروفة، تتم عن طريق الجيوش، أو الاقتصاد، أو الحكومات المنتدبة، النائبة عن المستعمر، وكل هذه الأنواع ما زالت موجودة في العالم، إلا الاحتلال الإيرانيّ للعراق، فقد تم بعراقيين وبأموال عراقيّة، تأسس هذا الجيش عن طريق العاطفة الطّائفيَّة، فمنذ 2003 بدأ قاسم سليمانيّ مهمة التأسيس، ميليشيا كبرى ثم تُشقق إلى ميليشيات، وذلك لضمان الولاء، حتّى اكتمل عقد الحرس الثّوري، في أيام نوري المالكي، بشباب عراقيّ ومال عراقي.
ظلت إيران تنفي وجود نشاط لقاسم سليماني داخل العراق، حتّى اضطرت إلى إعلانه مستشاراً في الجيش العراقيّ، وللمرة الأولى في التّاريخ يكون ضابط في الخدمة، ورئيس فيلق دولة أجنبية، يُعين مستشاراً لدى دولة أخرى، ويقيم فيها، ويبلّغ رؤساء الوزراء المرشحين بالمنصب قبل الجميع، ويهدد مَن لا يطيعه بالاغتيال! لهذا صار صوت طهران مِن جرف الصّخر يترس الأسماع، كراهية وعنفاً، إنه أغرب احتلال وأعجب، فكيف لا يكون هتاف “إيران بره بره” جريمة عقوبتها الخطف والتصفية.أقول: كل احتلال مضرٌ وفيه منافع ما، إلا مَن اتخذ جرف الصَّخر عاصمة، في خاصرة بغداد، يضر ولا ينفع، فرق موت ومخدرات واغتيالات، وحروب بالنيابة عنه.