الدكتور مهند العزاوي
لا توجد سابقة تاريخية تذكر ان بلدا ما قد استفاد من دخول حرب طويلة …سون تزو
يدشن العالم اليوم عهد جديد من الحروب والنزاعات المهلكة تختلف عن سابقتها من الحروب النظامية , وقد شهد العالم اخر الحروب نظامية في غزو العراق 2003 بقيادة الولايات المتحدة الاميركية وبتحالف الراغبين , تحت مبرر نزع اسلحة الدمار الشامل المزعومة , ومنذ ذلك التاريخ برزت مفاعيل دولية وأخرى اقليمية غيرت من طبيعة الصراع , وأرست مفاهيم وسلوكيات حربية لا تتسق بالقيم العسكرية العالمية ومعاهدات الحروب والنزاعات , ولا ترتبط بالقيم الحربية المتعلقة بقواعد الاشتباك وتجنيب المدنيين اضرار نيران الحرب , ويلاحظ تحول النسق الدولي ومنظماته العاملة من ارساء الامن والسلم والدولي الى معايشة الاضطراب والاحتراب الاهلي , ولعل هناك متغيرات وعوامل عديدة افرزت العالم الجديد العابر لنظرية الدولة والمتسق تماما بنظرية الفوضى الهدامة ومخرجاتها الحربية والسياسية , ولعل من ابرز نتاجاتها الدموية هي ظاهرة ” الحرب المركبة ” كنتاج لعسكره العولمة وخصخصة الحرب وتجارة الامن والحروب .
بوصلة الحرب
يلاحظ المراقبون بان العالم اليوم في حالة حرب دائمة وأضحت هذه الحرب تلقي بظلالها على التماسك الدولي والنسق السياسي العالمي , وبرزت للساحة ظواهر عديدة فاعلة تحرك بوصلة الحرب من موقع لأخر ومن دولة لأخرى ضمن سياسات “اشعال الحرائق ” , وهذا يعطينا انطباع واضح بان اليد الخفية المتحكمة بالعالم اخرجت من اجندتها فلسفة الامن والسلم , وذهبت لإشعال الحروب , دون الاخذ بنظر الاعتبار ان اشعال الحرب امرا ممكنا ولكن ايقافها امرا قد يكن خارج السيطرة , ولكن هذه الحروب من نوع اخر ليست حروب نظامية خصوصا بعد خصخصة الحرب 1992 وظهور بوادر تجزئة القوة ولامركزية القيادة وبروز ظاهرة الجيش الصغير الذكي المزود بالتقنيات الحربية المتطورة والذي ثبت فشله خلال حربي العراق وأفغانستان , مما جعل معتنقي هذه العقيدة ان يمارسوا الهروب الى الامام واختلاق حروب ذات طابع مركب يعتمد على تطويع القدرة الممزوجة المتطورة للعمل مع قوة لامتناظرة جيوش الظل الغير نظامية ( مليشيات – مرتزقة) وتجسد هذا في (الحروب ضد الارهاب) الهلامية الوصف والتقدير , , لتعلن عن قرن جديد من النزاعات والحروب المشابهة في نمطها لحروب الكنيسة في اوربا التي انهكت الدول وأفنت الشعوب وخرجت بحدود سياسية واتفاقات بينية هشة ولكنها اسست لسلم مستدام في اوربا , ولعل ما اورده ” رالف بيترز ” 2006 بمنشور اسمه “حدود الدم ” بات قاب قوسين او ادنى من التحقق بتقسيم الدول العربية الكبيرة ويرسم خوارط سياسية لدويلات صغيرة متحاربة ترسم حدودها السياسية بالدم والحروب وبات يقترب التنبوء من الواقع في خضم الفوضى السياسية والتخبط الدولي في معالجة ازمات المنطقة .
الحرب المركبة
لم تعد القيم الحربية التي تدرس في المعاهد والأكاديميات العسكرية المختصة ذات فائدة في بيئة حربية غير متجانسة , خصوصا بعد اتساع ظاهرة الجيوش المبعثرة الغير حرفية , وبروز جيل الجيوش المرتزقة والبيارق المزيفة من المليشيات والتنظيمات الارهابية المتوحشة , وكذلك اندثار خطوط التماس الحربي , وغياب حرمة الحدود السياسية للدول , والردع العسكري المنظم بأدوات , وكانت حقبة التسعينات قد افرزت اعتناق مبدأ الجيش الذكي الذي يعتمد على القوة النارية الجوية والأرضية والبحرية المتطورة ومكننة الحرب وتجزئة القدرة النووية الى اسلحة محدودة , ناهيك عن الهيمنة الفضائية ضمن سياق الحرب الالكترومعلوماتية التي تستطيع ان تمسح ساحة المعركة ومسرح العمليات بدقة لتحقق سيادة حربية مطلقة ولكن بأثمان باهضة , وقد نجحت نسبيا في غزو العراق لأسباب مختلفة كانت ابرزها مزاوجة القوة اللامتناظرة في خرق الدفاعات العراقية وكذلك تأخر القوات المسلحة العراقية عن التطور على اثر الحصار الاقتصادي ولأول مرة يخوض بلد حرب ضد حدود مجافية 360 درجة , وبعد الاحتلال لم تستطع هذه الجيوش الذكية من تحقيق نصر حربي فعلي على الارض , بل ذهبت الادارة الحربية لإشراك قطعات هجينة لتؤسس الى فلسفة الحرب الشبحية المركبة من المليشيات المختلفة والتشكيلات الغير نظامية كمجلس الصحوة والإسناد التي ادخلت العراق والمنطقة في اتون حرب طائفية اقليمية ونزاعات لها اول وليس لها اخر , وبذلك فقد العالم ابرز مقومات بقائه الامن والسلم الاهلي الذي اصبح مفقودا في كافة الدول بالعالم في ظل استخدام الحرب المركبة الدموية العابرة لخطوط التماس الحربي .
حرب بلا حدود؟
لقد عرف العالم أنواعًا لا تكاد تُحصى من الفنون القتالية على مر التاريخ , وعرف أنواعاً كثيرة جداً من الأسلحة , والخطط العسكرية والأساليب القتالية , وأساليب إدارة المعارك وأصنافاً من الخدع العسكرية , كما عرف الكثير من العبقريات العسكرية على مر التاريخ , ويجري عادة في شن الحروب او تأسيس تحالفات حربية تهيئة البيئة السياسية وانتخاب اهداف سياسية محددة وتكوين رأي عام داعم لها بغض النظر عن الضخ الاعلامي الموجه , ويجري تحليل معمق للبيئة الاستراتيجية من كافة الجوانب , ثم يتم تشخيص العدو بدقة وتحديد سلوكياته وبيان مواقعه الحربية وتحديد بنك الاهداف , وحصر الاضرار ورسم الخطط ورصد الموارد لتحقيقها , ثم الشروع بالاستحضارات التمهيدية لشن الحرب , ويبدوا ان الحرب النظامية قد غادرت عقول صانعي الحرب وتجارها خصوصا في حالة العراق وسوريا , والعقل التجاري هو المسيطر على القرار دون الاخذ بنظر الاعتبار اختلاف مسرحي الحرب في سوريا والعراق , وان القطعات البرية غير موجودة اصلا , وان خطوط التماس بين الاطراف مصنعة لحرب مليشيات طاحن ودموي لا تتسق بالقيم الحربية بل تتسق بمسالك المليشيا والتوحش , كما ان القوة الجوية المتطورة والقدرة الصاروخية المكلفة يتطلب استخدامها دقة في انتخاب بنك الاهداف الذي يترادف مع التقدم البري على الارض وهذا لم يحشد اصلا , وفي الافق الجغرافي بلدين مستباحة حدودها للجوار الاقليمي , ولا يمكن القفز على حقيقة الجوانب الانسانية لملاين المهجرين والنازحين وحجم الدمار الذي اصاب المنازل والممتلكات الاهلية والتي ينص القانون الدولي ومعاهدات الحرب على سلامتهم , هنا اتسائل هل هناك عقول عسكرية تستخدم مسالك غير مضمونة ؟ وتخوض حرب هلامية مركبة بلا حدود ربما تستمر عقدين من الزمن او ثلاث تحرق الاخضر واليابس دون حلول سياسية ناجعة تعالج الاسباب وليس النتائج ؟ , كيف افهم مصطلح حرب بلا حدود ؟ وهل تحول العقل العسكري العربي الى مشارك دون ان يكون صانع سلام على ارض يعرف شعابها ويفهم شجون ابنائها ؟ , كيف يعالج الخطأ بالخطيئة ؟ كيف نبحث عن دولة ونظام سياسي متحضر والحرب الطائفية مستعرة بلا هوادة ؟ كيف وبنك الضحايا لم يتوقف ؟ والنجاح بات كسراب! هل انقطعت سبل الحل السياسي ليخوض العراق والمنطقة حرب بلا حدود لا يمكن التكهن بنتائجها وأثارها الارتدادية ؟ يقول القائد الصيني الشهير “سون تزو “لا توجد سابقة تاريخية تذكر ان بلدا ما قد استفاد من دخول حرب طويلة ” فهل انقطعت سبل الحكمة وصناعة القرار!