جمال العتابي
حينما كان الفن التشكيل العراقي يبحث عن آفاق جديدة في العالم، نمت الفكرة في أعماق ذواتنا البعيدة، وجدنا أن مواقعنا الفنية – تاريخاً ومستويات – تسمح لنا من الاقتراب من قلب العالم وسماع وجيبه.والانطلاق نحو أفق أبعد مدى يتطلب تجارب أصيلة متأنية ووعياً حضارياً خارج حدود التمنيات، أن الانتظار عند حافة العالم، لم يعد حلم الفنانين العراقيين وهما في حاضر تصب فيه أنهار ماضٍ لم ينقطع تدفقها على مرّ العصور، ومستقبل يُصنع في كل لحظة معاشة بحماسة حياة تتطلع دوماً الى الحرية، وبحركة من دينامية التطور، وايماءات الروح إلى أفق أعلى، تنطلق نحو المستقبل كجزء من حقائقه، وارادة من إراداته، وصوت نبوي من أصواته، من دون تطليق لكل ماغربت عليه شمس، ولكل ما انتمى إلى
أمس!
إن أحد أبرز الميادين التي تأثر بها فنانونا طيلة العقود الماضية، هو الفن التشكيلي في الغرب، باتجاهاته الفنية، وطريقة التعبير والنقد، إذ حاولوا الاستفادة مما حققه الفنانون العالميون، من دون التبعية لهم، فقدّموا رؤى فنية متنوعة تعكس تارة القبول بالتأثر، أو ترفضه أحياناً بخجل، أو البحث عن حلول أخرى، توفيقية أحياناً، أو صياغة إبداعية جديدة تارة أخرى، يظهر فيها الابداع، والابتكار والأصالة.وتجدر الاشارة إلى أن التغييرات الفنية قد وسعت آفاق التعبير الفني، وفتحت الباب لدخول تيارات فنية جديدة، وأسهم الفنانون الذين درسوا في معاهد الغرب في خلق هذه التيارات الحديثة.هكذا، تغدو تطلعاتنا على مستوى الأثر الفني، مبنية على اعتبار أن المؤسسات الفنية ليست لوحدها هي الهياكل الأساسية لبناء ثقافة فنية وطنية متكاملة، بل هي الجهود المشتركة للأروقة وللمراسم والمشاغل والجماعات، لأن الفن لا يمكن أن يوجد إلا في جدال مع تاريخه الخاص، ويتحدد هذا المستوى في كل مرحلة زمنية، بالتباين بين ما كان عليه خطه البياني، وما آل إليه.وما دام الفن، هو الذي يهب لحظات السعادة لكل البشر من دون استثناء، فالحدود الجغرافية لن تكون حائلا، من دون التمتع برؤية الأثر الفني، فإن ما يبقى في الأذهان منه، هو ذلك الأثر المتوازن مع حركة العصر، والصوت العميق المتناغم مع الذات الإنسانية، وهما حدّا المعادلة الذهبية لكل معرفة، لأن أحدهما يعود لجاذبية تلك القوة الداخلية، والثاني إلى الحركة التي قادتها، ولا تفرض هذه الحركة نفسها علينا إلا لأنها خاصّتُنا، وهي تتجه إلينا بود، من دون أن تجد حرجاً في لقيانا.
ان حقيقة يدركها المتتبع للحركة التشكيلية العراقية، هي ما بلغه الفنان العراقي من مستوى من الوضوح في الرؤى، وتعدد الاساليب وتنوع التقنيات على مدى قرن من الزمن، ثم ازداد عمقاً في منتصف القرن الماضي في تعدد موضوعاته وانفتاحه على التجارب الفنية العالمية، وبما يحمله من موروث حضاري، وبمزيد من الاجتهاد والبحث الهادئ في امتلاك مقومات التفرد على صعيد الموضوع والطروحات الفكرية والفلسفية، فضلاً عن الموقف الوطني والوعي الانساني.ولا تزال تتأرجح الحركة التشكيلية العراقية بين مخزون ثقافي وموروث فني ممتد عبر تاريخها، وبين اغراءات تقليد الاتجاهات الغربية رغبة في مجاراة الحداثة، والانتماء إلى اشكال العصر.
ولكي تتوازن تلك الحركة وتصبح قادرة على ابداع فن تشكيلي له قيمة حقيقية وأصيلة يضاف الى رصيد الإبداع الانساني، فانها تحتاج الى توازن ثقافي – فني، وثقة في النفس، وقدرة على الاختيار والانتخاب بما يكفل لها استقلالية النظرة وتفردها، وذلك بالطبع لن يحدث لخلية واحدة من خلايا هذا الكيان، انما هو توجه عام يتبناه المجتمع يترك آثاره في مختلف الفنون ووسائل التعبير.مثل هذا الامتداد للفكر الفني، قد يلامس جانباً مثيراً من أحلامنا، وقد يغمرنا بالزبد مثل الأمواج التي تضرب الجرف القاري، وربما يصل بنا إلى قلب العالم، حيث لا نستطيع بعد ذلك أن نطعن في ثقافتنا الخاصة، لأنها جزء منا.وقبل أن نرغب في إطلاق مفهومنا حول الفن من خلال الاستنارة بخلاصات الثقافات الأخرى، ينبغي علينا أولاً البرهنة على أن تلك الخلاصات تستطيع أن تقف في مواجهة مجدية، وهو احتراز ضروري للكشف، من دون كثير من المخاطر عن حقل ما زلنا نجهل حدوده٠ وهذا يعني بأن ينبوع الفن الحقيقي هو الانسان المبدع بمعناه الكلي، وليس بحدود جغرافية تؤطره وتواصل عمليات الفصل بينه وبين ما يؤدي الى تكامله مع الجنس البشري، وسوف لن يتعلق ذلك بتقليد الأساليب التي أبدعها الفنانون في الشرق أو في الغرب، بل يتركز في صهر أشد العناصر تنوعاً وتناقضاً في تلك الفنون لتحقيق ما يمكن أن يشكل تركيباً اندماجياً، لانجازات هؤلاء وتوصلات أولئك من دون التضحية بالشخصية الوطنية التي تمدنا بمبررات وجودنا في الفن والحياة على حد سواء.
وهذا هو المنهج الصحيح الذي يمكن أن يصل بالفن العراقي الى حالة نوعية جديدة، لعل من أبرز سماتها هو الاستعداد العالي للمضي بالفن العراقي نحو أفق (العالمية) بمعنى الانتشار..كم كان على بلد يعود إشعاعه الثقافي إلى أعماق التاريخ ألا يستجيب الى متطلبات العصر، ويفتش عن تكافئه الثقافي مع تجارب العالم؟والنفاذ إلى تيارات الفن الحديث، يقتضي الأمر تعيين المواقع الحقيقية لمنطلقات هذا التوجه وفق أسس بناء حركة فنية مجددة، أصيلة المنابع، منفعلة بالأحداث غير غائبة عن العصر.وهذا ما يدعونا الى تفهم العالمية في معالجات الفن، تلك المعبرة عن أعماق الانسان ومصيره القادم، الذي يواجه أزمات متقاربة، إذ لا يمكن فصل الفن التشكيلي عن الزمن الذي يرافقه، ولا المكان الذي نشأ فيه.فهو لغة تجمع بين الابداع والتنوع،تروي حكايات وجماليات حياة الانسان.