طوى رمضان الخير صفحاته وودعنا مغادرا عدنا لتأمل حالنا، لنكتشف أنه بقدر ما كان رمضان المبارك قريبا من قلوبنا مقربا ما بيننا بقدر ما كانت كورونا عكسه فهي أبت الا أن تقيم بيننا زارعة الخوف ومادة الحواجز، ولاجلها ضجّت بيوتنا بروائح التعقيم والتعفيروأدوات الوقاية.ولم يكن أمام المواطن العراقي من تسلية ومتعة وقضاء وقت الا أن يتابع ما تقدمه تلك الفضائيات من أعمال درامية وحوارية ومنوعة ولقاءات السياسيين الذين لم يغيبوا ليلة عن العراقيين عبر الاستضافات اليومية لهم من قبل أصحاب العديد من تلكالفضائيات!!
لم يكن حضور الدراما العراقية كبيرا فقد كان محدودا في الشرقية والعراقية والام بي سي عراق واليوتيفي، قدمت الشرقية عملا دراميا على شكل حلقات يكتبها كتاب مختلفون ويجمعها بطل واحد هو الفنان( أياد راضي) القاسم المشترك بين كل الحلقات التي لم يقدم منها الا ثماني عشرة حلقة تنوعت في تناول ظواهر سلبية ومعالجتها بطريقة ساخرة ، ولعل الحلقة الاخيرة من المسلسل ( الطابق 15) جعلت من الحلقات اشارة واضحة لطبيعتها في توجهها الوطني والاخلاقي، لم يغفل القائمون على الانتاج أهمية الالتفات الى تأكيد الدور البطولي وقيمة الشهادة لشباب ثورة تشرين التي جاءت من أجل حفظ وطن واستعادة حقوق ما خلق تعاطفا جمعيا مع ما جاء في هذه الحلقة، علما أن هذه الحلقة لم تأت سهوا بل انبثقت من رحم التظاهرات التي ما زالت حتى هذه اللحظة يتوهج أوارها في ساحة التحرير وساحات الحرية في كل محافظات العراق، هذا العمل قدم لنا مخرجا عارفا كيف يكّون رؤيته الفنية وهو يقود كل ذلك التنوع في حلقاته و توجهاتها الفكرية والجمالية المتعددة ، حقق ( كمامات وطن ) حضورا لدى المتلقي العراقي ومنح بطله زخما مهما في التميز ووضع مخرجه أمام مسؤولية جديدة في منحه الفرصة الكافية لتقديم أعمال كبيرة تتناسب مع موهبته، ومن قناة الشرقية التي تعودت أن تكون مؤثرة في كل موسم درامي لشهر رمضانالمبارك.
اما قناة العراقية فعرضت عملين دراميين هما للكاتبين باسل الشبيب وقحطان زغير، فقدم الشبيب عمل (يسكن قلبي ) وقد عهد الى المخرج أكرم كامل باخراجه وهو يقع في ثلاثين ساعة تلفازية، اما قحطان زغير فقدم ( عائلة خارج التغطية ) ويقع في ثلاثين نصف ساعة تلفازية وعهد الى المخرج علي أبو سيف بمهمة الاخراج وهو عمل كوميدي ترفيهي هدفه بث روح المتعة، يذكر ان هذين العملين انجزا عن طريق ” لجنة دعم الدرامة ” في شبكة الاعلام العراقي 2017-2018 وتم عرضهما الان ولاول مرة بهذا الموسمالدرامي.
(يسكن قلبي) لباسل الشبيب .. حبكة متأنية وشخصيات نابعة من الواقع اليومي بعيدا عن التحزب لجهة أو النبش في ماض، حكاية تبدو بسيطة لكنها ممتنعة حين التدقيق فيها ومحاولة الولوج لفك بعض صفحاتها وهي تحمل بين طياتها بذور تأويلها، منذ اللحظة الاولى وضعنا ابن شبيب البارع في خضم حكاية مسبوكة وزرع في ثناياها التشويق والترقب، علامات استفهام تدور بين الشخصيات من خلال الحوارات والايماءات والمضمر الذي لا يقال، لم تكن ماجدة محور العمل وكفة ميزانه تلك المرأة العراقية الصابرة المتهمة والثابتة الا امتدادا لجميع أولئك النسوة اللواتي جرحتّهن الحروب وخساراتها ورملّت أحلامهن سنوات الفقدان وعذاباته والصبر المر الذي تجرعنه تحت ضغط الحاجة والوحشة والتغرب بين الاهل والصحبة، ولم يكن ذلك البيت الذي دارت فيه الاحداث وثبتت ملكيته لاهله الاصلاء الممتدة جذورهم عميقا في رحم التربة العراقية الا الوطن الذي تنفسنا حبه وآمنا به منذ لحظة اندلاقنا من رحم أمهاتنا، أسرار وهمسات وشخصيات مختلفة تذهب وتعود لتكون على صلة وتواصل مع سكان البيت الرحم الخصب، نديم المناضل والذي فقد عقله بسبب التعذيب الا أنه لم يفقد التوق لشمس الحرية، وهوبي العاشق لكل ماهو أصيل وجميل في البيت وشاكر الذي فقد بصره في تفجيرات الكرادة الارهابية لكنه لم يفقد ايمانه وانسانيته بكل ما حوله وعامر المغترب الذي يجد نفسه حين يكون قرب جذره وذكرى أحبته، ابراهيم الذي يعيش عذابات الخيانة ويرتعش وهو يحاول اخفاءها لكنه في لحظة البوح يسترد كيانه ويتماسك، شهاب كلبجة الذي يعتبر البيت وسيلة للاثراء حتى ببيع الروح والمساومة على الاعراض وفقير اغتنى ببيع الضمير فكان عاصيا للوطن ومنبعا للارهاب، وعلاقات تأتي سريعة تترك بصمة ثم تغادر وشباب منهم من يتعجل الحقيقة، ثم يهدأ حين يعرف كل يوم وجهاً من أوجهها مثل ( رياض)، وعسكري عاش في وهم زائف من أبيه فحمل عقدة أمه واستباح دمها (أنس)، عوالم متناقضة وصراعات تتفجر وأحداث تجر معها أحداثا ومحور ثابت ومضيء هي ماجدة التي تعرف وتكتم ولا ينطوي قلبها الا على المحبة والتسامح رغم جراحها ، تفتح أبواب الامل امام الاخرين لانها تؤمن بمنح الانسان فرصة حتى لو كان مخطئا كي يصلح حاله، في العمل اشراقات فكرية نبيلة في هذا الزمن العراقي المضطرب، فهناك تأكيد على روح المواطنة والانتماء ودعوة لنبذ العنف والثأر وتوجيه بلطف للتكافل الاجتماعي واحترام الاخر.
كما ظهر جليا الاعتزاز الكبير بالقوى الامنية العراقية الاصيلة التي تسعى لحفظ أمن وسلامة الناس على اختلاف توجهاتهم ومنابعهم، أبدع في هذا المسلسل ممثلون كبار غادروا تحفظاتهم وأعلنوا انتماءهم الى الشخصيات التي أنيطت بهم وتعاونوا لانجاح العمل ليخرج بكل ذلك الزخم الدراماتيكي والشجن الآسر، نقف أمام الفنانة الكبيرة شذى سالم وما قدمته من روح أدائية وعقل متنور وعاطفة أم لا تعرف الفرقة بين أبنائها، و الممثل صاحب الحضور البهي محمود أبو العباس بكل ما يملك من وعي معرفي وخبرة فنية مشهودة، وينبري لنا غانم حميد بشخصية قريبة للنفس يؤديها بدربة عالية ومهارة، أما عن مازن محمد فلا نملك الا أن نعجب بأدائه لشخصية ملتاثة تنتقل ما بين العقل واللوثة وهو يمسك بتلابيبها ويوجهها انى يشاء بمهارة، وكما عودنا فناننا الكبير ستار البصري حضورا ورصانة وكذا الحال مع حقي الشوك بعفويته، وستار خضير وهو يكسر النمطي ليخرج الى شخصية طاقة الشر فيها ساحقة فيقدمها باجادة، الفنان محمد طعمة أدى شخصية صعبة في تحولاتها الدرامية وكان مؤثرا في تجسيد حالة الجشع والخيانة، أما الشباب فقد تألقوا بكل ذلك الاداء المدهش في التحولات الدرامية ومنحوا العمل شحنته النابضة وايقاعه المتدفق، مرتضى حبيب وباسم الطيب وعلي نجم الدين وذو الفقار حضور شبابي واع ومتمكن، الفنان مناضل داود فقد كان راكزا.أما الممثل أحمد طعمة فقد قدم شخصية العسكري العراقي والمنتمي لقضية وطن بمهارة، لن نغفل الاداء الرصين للفنانين: يحيى ابراهيم وماجد درندش وحسين علاوي رغم قصر حضورهم، كان الاداء من أهم عناصر نجاح العمل الدرامي (يسكن قلبي) وتقديم حكايته المهمة بكل ذلك الفهم العميق دون الوقوع في الميلودراما أو المبالغة، مع مخرج مدّ مع الممثلين وشائج ثقة كي يجسد رؤيته الفنية والجمالية مستفيدا من كل الامكانيات الادائية المزكاة في موهبتها والنص الدرامي الغني بمضمونه الانساني، وان كان ثراء النص أكثر عمقا من تأثير الرؤية الاخراجية التي جاءت منفذة في بعض الاحيان، مبروك الى لجنة دعم الدراما فقد سكن هذا المسلسل قلوب العراقيين وزادهم وجدا في حب العراق وحفظه.