منذ سنوات كنتُ أنتظر كتاب الناقد العراقي الصديق وزميل دراستي للفلسفة «عدنان فالح» في مرحلة ثمانينيات القرن العشرين بالعاصمة بغداد، انتظره وقد نشره في سنة 2019. ومع أن الكتابة هي شبه نادرة بالعراق عن الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه (1844 – 1900)، إلا أن ما يقدمه عدنان فالح في كتابه يُعد منجزاً للمكتبة الفلسفية العراقية، وكنت أتمنى على الصديق الدكتور علي حاكم أن يضعنا في تاريخانية هذا المنجز عراقياً، لكنه تغافل عنه من دون أي احتفاء، وهو الذي قدم لهذا الكتاب.
آثر عدنان فالح استخدام مصطلح «جينالوجيا» في عنوان الكتاب، وهو أمر نجد صداه كثيراً في صلب هذا العمل، فجاء الكتاب بصنيع منهجي تطبيقي نافر الظهور ذي خصيصة، علماً أن نيتشه كان استخدم هذا المُصطلح، في أقل تقدير زمني، منذ كتابه بالألمانية (جينالوجيا الأخلاق) = (Zur Genealogie der Moral) في سنة 1887.
مفهوم الجينالوجيا
والشاهد هنا هو مصطلح (Genealogie)، ومعناه البحث عن الأصل في المفهوم، لكن الجينالوجيا مع نيتشه هي جزء من نمط تفكيره وكتابته، ذلك أن „مفهوم الجينالوجيا الذي لا تتوقّف مَهمته على تقوية المفاهيم وإرجاعها إلى أصولها العميقة والحقيقة، هو تساؤل عن الأصل النفسي والفيزيولوجي لمفاهيم الثقافة والمعرفة، وهو أصل مُحجّب ومقنّع، ولا يمكن إماطة اللثام عنه إلا بواسطة تحليل اللغة“ – كما يقول عماد الحسناوي – وهو ما اشتغل عليه عدنان فالح في كتابه هذا، الذي صبّه وفق نفس كتابي واحد طويل من أول الكتاب حتى آخره، من دون تقطيع أو تبويب أو عناوين فرعية، ما يجعل القارئ في تعب من أمره سوى مُلحقين ختم بهمها كتابه، لكنّه وفي كل ذلك احتفى بتنوير المتن عبر هوامش ثريّة مهمة تُحسب في ميزان فضائله البحثية.
عبقريتي في أنفي!
يعيش عدنان فالح تجربة شبه شخصيّة مع فلسفة نيتشه، وهذا ما أشار إليه علي حاكم في مقدمته (ص 14)، وكان يعيش الفلسفة فيركّز على العنصر الشخصي باعتبار أن كل فلسفة عظيمة هي الاعتراف الشخصي لمؤلّفها، ومن ثم تجربة نيتشه مع الموسيقى لعيش التجربة الجمالية، تجربة نيتشه ضد فاغنر لصالح بيزيه.
ينتقل المؤلّف وبسرعة إلى قضية إشكالية ولج نيتشه معالمها تلك هي قضية «موت الإله». ولعلّ ما هو لافت أن عدنان فالح يرجع هذه القضية، من الناحية الجينالوجية، إلى كتاب/ مقال نيتشه (المسافر وظله)، شذرة «السجناء» رقم 84، والتي قالها نيتشه صراحة في مؤلَّفه (العلم الجذل) ضمن الشذرة التي حملت عنوان «صراعات جديدة» بالرقم 108، ومن ثم في شذرة «المجنون» بالرقم 125. وبإزاء ذلك يعتقد فالح بوجود قراءتين لهذا المنحى النيتشوي هما: القراءة الثقافية الاجتماعية والتاريخية، ومن ثم قراءة الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر، ومؤدّاها أن «فلسفة نيتشه مُحاصرة بالميتافيزيقا؛ بل متورّطة ومشغولة بها من دون أي مخرج» (ص 45).
وهنا كان هيدغر يعتقد، جينالوجياً، بأن فكرة «موت الإله» كانت مألوفة لدى نيتشه الشاب في كتابه (ولادة المأساة) لسنة 1870، وهو أمر تقصّاه عدنان فالح بتؤدة حتى عثر عليه (انظر: ص 46)، لكنّه سرعان ما ينتقل إلى التركيز على «الانحسار»، و»التحلل»، و»الانحلال»، وهو توجّه يراه المؤلّف كان ظهر في كتابات نيتشه المتأخرة، لكنه الظهور الذي سيركّز عليه هيدغر عندما احتفى بمصطلح التقويض (Destruktion) منذ كتابه (الكينونة والزمان) لسنة 1927. لينتقل إلى توجّهات نيتشه جهة „حاسّة الشّم“، وكان نيتشه يقول متحمّساً: „عبقريتي في أنفي“ (هذا هو الإنسان – لم أنا قدر، 1).
العدميّة
يأخذنا عدنان فالح إلى العدميّة (Nihilismus) فيستقرئ استخداماتها النيتشوية؛ إذ تساءل نيتشه عن معناها وأجاب: „إن العدميّة هي افتقار للهدف يحدث نتيجة لتقهقر وانخفاض في قيمة أعلى القيم“، وهذا النص يرد في كتاب نيتشه (إرادة القوة، 2)، ولا أدري كيف فات عدنان فالح بأن العدميّة بحسب تعبير نيتشه هي: „القضاء على أنفسنا بأنفسنا“ (إرادة القوة، 1)؟ لكنه ينسرح صوب المؤدّى الهيدغري ليتابع بعض مفاصله في شأن العدميّة، وهو أمر حسن ليتابع بعدها جينالوجياً دلالات العدميّة عند نيتشه في الشذرة 12 من كتاب (إرادة القوة)، وهو أمر يُحسب لعدنان مؤلِّفاً، لكنه هذا الأخير لا يغادر القراءة الهيدغريّة، ليتوقّف عند مفاهيم مثل: الغائية، والوحدة، والكينونة، والتشاؤم، والإنهاك، ثم: الحب، والحب الجنسي، وغيرها. ويعود إلى العدميّة بأكثر من شغف بتأكيده على أن „نيتشه أخضع مفهوم العدميّة إلى تمييزه الأساسي“ (ص: 85)، وتمييز نيتشه بين عدميّة مكتملة وأخرى ناقصة، لكنه يذهب جينالوجياً إلى استخدامات هذا المُصطلح قبل نيتشه عبر هيدغر لدى فريدريش جاكوبي (1743 – 1819)، ويتقدّم إلى جان بول سارتر (1905 – 1980) ومفهوم „العدميّة الشعريّة“، ومن ثمَّ إيفان تورغينيف (1818 – 1883)، وغيره..، وهو حفر رائق يُحسب لعدنان فالح، وفي الوقت نفسه أراه يؤمن بأن فهم نيتشه للعدميّة لا يمكن الادعاء بأنه الفهم الشللي أو الشقي (انظر: ص 88). ولذلك يأخذنا المؤلِّف العراقي إلى تأريخ المشاكلة النيتشوية لمفهوم العدميّة قبل كتاب نيتشه (إرادة القوة)، وكم كنتُ أتمنى أن يزيد أكثر حول هذا المفهوم مثلما كنت أتمنى عليه الإيغال أكثر في مفهوم „الاستئصالية العنيفة“ بدلاً من المرور السريع عليها.
وقبل أن يذهب فالح إلى مشاكلة نيتشه بين العدميّة والبوذية والمسيحيّة ينزل إلى دلالات مفهوم „إرادة الحقيقة“، وهو توجُّه جينالوجي في منحاه التأريخي أفضى إلى رسم ملامح لهذه الإرادة..، وبالتالي مفهوم „الانحطاط“، لا سيما ذاك الذي يصيب الفيلسوف ونماذج أخرى من النُّخبة في المجتمع، ومنهم „الطبيب“، وهو تكريس جينالوجي بحث في أوتاده عدنان فالح بتؤدة (انظر: ص 105، وكذلك ص 107)، مثلما يفعل بصدد مفهوم „البراءة“، وكذلك „براءة الصيرورة“، لكنه يقفز نحو كانط في علاقته بالفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1824 – 1804)، فيقول: „لقد استبدل نيتشه سؤال كانط: كيف تكون الأحكام التركيبية القبليّة مُمكنة؟ بالسؤال: لماذا يكون الاعتقاد في مثل هذه الأحكام ضرورياً؟“ (ص 135)، وهي مقاربة حسنة من جانب المؤلّف العراقي؛ فما زالت أسئلة كانط وأثرها في نيتشه مغيبة بالدرس النقدي العربي على الأقل.
(إرادة القوة)
ومن ناحية أخرى، وجدت عدنان فالح يستخدم نصوصاً من كتاب نيتشه (إرادة القوة) تصل إلى الفقرة 569، بل إلى فقرات تالية على ذلك، على سبيل المثال، وهو أمر استحسنهُ شخصياً كثيراً، خصوصاً أن الترجمة العربية لهذا الكتاب وقفت عند الفقرة 483، فهي ترجمة منقوصة تلك التي نهض بها «محمد الناجي» مشكوراً، ليعود المؤلِّف إلى هيدغر في قراءته نيتشه حول «موت الإله» مقارنة بمفاهيم أخرى مثل: إرادة القوة، وميتافيزيقا إرادة القوة، وغيرهما، ويركز على قراءة هيدغر في (كلمة نيتشه: لقد مات الله)، ورغم أنه يعيب على هيدغر التباس لغته وتشوشها» (ص 156)، وهو أمر أعيبه على عدنان فالح مرحلياً وهو الذي سرعان ما ابدى إعجابه بصنيع هيدغر ليقول: «وجدتًُ المقال قد بلغ غاية عظيمة» (ص 146)، وهذا الاستئناف حسن الطية.
لا أريد أن أطيل في قراءتي لهذا الكتاب؛ فلي عودة أخرى معه ربما في المستقبل، ولكني أرى فيه مُنجزاً فلسفياً عربياً – عراقياً يستحق القراءة لكونه انتهج الجديّة في توجّهاته التأليفية ليولد دسماً رغم غياب التبويب. فطوبي لك صديقي «عدنان فالح» على صنيعك الفلسفي (دوائر نيتشه.. جينالوجيا المفاهيم). وكم أشعر بالسعادة والفخر أنه صدر في المكتبة الفلسفية العراقية هذا الكتاب بعد صدور كتابي (فتنة الإسلاف.. هيدغر قارئاً كانط) لسنة 2019 أو قبله بقليل، وكلاهما تزامن مع صدور كتاب للزميل الدكتور كريم الجاف عن مارتن هيدغر، وجميع هذه الكتب إمعان فلسفي جاد في مسارات الفلسفة الألمانية التي عبرّت عن نصابها قبل القرن العشرين بقليل وفيه.