العصابات التي حكمت العراق منذ العام 2003 انتهت، بعد الكثير من أعمال النهب والسلب والتخريب والفساد والفشل، إلى أنها صارت في حاجة إلى “طرف ثالث” ينحاز إلى بعضها دون البعض الآخر.هذا الطرف الثالث هو “المستقلون” الذين يشكلون، على تنوع مشاربهم وانحيازاتهم، نحو 75 مقعدا في البرلمان، ويمكنهم بالتالي ترجيح إحدى الكفتين.
ولكن، هل هم مستقلون فعلا؟ وهل يجمعهم جامع؟ وهل هم “وطنيون” أصلا؟ أم أنهم مجرد فتات تساقط من احتكاكات العصابات الكبيرة نفسها؟ هل لديهم “مشروع وطني”؟ وهل يمكنهم أن يجتمعوا على أي وجه لأي مشروع وطني؟
يريد نوري المالكي، صاحب “الدولة العميقة”، أن يضمهم إلى تحالفه الموالي لإيران لكي يكسر بهم شوكة “التيار الصدري”. بينما يريد مقتدى الصدر أن يجرهم إليه لكي يكسر بهم شوكة “الإطار التنسيقي” التي تحولت إلى سكين في خاصرة “الأغلبية الوطنية” وصارت تمثل “الثلث المعطل” لها.
الأول، يريد حصته من الحكم ومنافعه وامتيازاته. والثاني يريد حصة لا يشاركه فيها غريم.
البيئة العامة نفسها، بيئة فساد وفشل. وهي بيئة يتحكم بها رجال العصابات الكبرى، الذين يقررون حدود اللعبة، وحدود قدراتك فيها. كما يقررون نهاياتها وغاياتها أيضا
المالكي لم يترك حجرا للتآمر إلا وقلّبه من أجل أن يؤكد حضوره كحاكم فعلي للعراق، بصرف النظر عن موقعه من أي حكومة، حتى لم يعد يُضيره أن يُسمّي المستقلون رئيس الحكومة بأنفسهم. ويعرض عليهم الصدر أن يشكلوا هم الحكومة بدعم من كتلته الأكبر، من دون أن يكون لتياره وزراء فيها. وهو ما يبدو وكأنه تنازل كبير. ولكن الأول، يريد أن يختاروا رئيسا للوزراء بموافقته. والثاني يريد لحكومتهم أن تمتثل لشروطه.
المشكلة لا تكمن في ما يريد هذا الطرف أو ذاك. المشكلة هي أن “المستقلين” أنفسهم لا يعرفون ماذا يريدون. ولو أنك وضعتهم في قاعة واحدة، فإنهم لن يتفقوا على تصوّر مشترك. ولسوف يتنازعون مثلما تتنازع عصاباتهم الكبيرة. وإذا أعطيتهم سلاحا، فسوف يتقاتلون.
فكرة أنهم “مستقلون” هي نفسها فكرة زائفة. لا يوجد مستقلون في عراق الميليشيات. هناك أفراد ذوو نزعات وطنية. ولكنهم فتات، ولا يملكون حتى القدرة على الاجتماع مع فتات آخرين قد تعثر عليهم وسط ما اندلق إلى الأرض في بيئة التنازعات على الحصص، أو في ما تركت من فراغات.
“العملية السياسية” التي جزّأت العراق إلى “مكونات”، والمكونات إلى عصابات، والعصابات إلى شلل وجماعات مسلحة، كانت من التلوث حتى بات من العسير أن تنبت “وردة” وسط هذا “السبتيتنغ” الكبير (حوض الفضلات والقاذورات) الذي عم برائحته حتى جعل العراق في أعلى قائمة الدول الفاسدة، وفي أسفل قائمة دول التعليم والصحة والخدمات، وسياسييه في قمة قائمة الأفاقين، ورجال الدين في درك الانحطاط الديني والأخلاقي والاجتماعي والثقافي الأسفل.
ليست هذه نظرة يائسة. إنها نظرة الواقع الذي يقول إنك حتى وإن عثرت على شريف واحد، فإنه عاجز. وإنه حالما يدخل اللعبة بشروط هذه العصابة أو تلك حتى يُصبح جزءا منها.
الظرف المثالي، كان بوسعه القول إن جمعا من 40 وطنيا يمكنه أن يقلب الموازين، بحيث يفرض أجندة وطنية صارمة للقضاء على الفساد، تقيم حكومة تكنوقراط ممن لم يرتبطوا بأجندات طائفية، تستعيد استقلال العراق، ترفع شأن سيادة القانون، وتعيد توزيع الثروة على نحو يخدم المصالح الوطنية العليا، لا مصالح عصابات المشاريع الوهمية، ولا إقطاعيات الفساد.
ولكني أجرؤ على التحدي، أنك لن تجد بين كل طائفة المستقلين المزعومين، هذا العدد الخرافي الذي يمكنه أن يقلب الموازين.
إنه عدد خرافي بالفعل. لأنك سوف تبدو كمن جمع تلال الفساد والجريمة والفكر الوسخ، وجلس لينتظر أن تنبت فيها 40 وردة. ومن ثم يجعلها تخرج لتقول إنها هي الحديقة الغنّاء التي يمكن أن تغيّر عراق “المكونات”، وتعيد بناءه ليكون عراقا لمواطنيه، أو على الأقل، عراقا لا تتحكم به عصابات مسلحة، أو على أقل الأقل، يضع حدا لأعمال الفساد أو يهدم دولة المحاصصات الطائفية.
حتى وإن عثرت على شريف واحد، فإنه عاجز. وإنه حالما يدخل اللعبة بشروط هذه العصابة أو تلك حتى يُصبح جزءا منها
بناء رؤية وطنية لا يفترض أن يكون أمرا مستحيلا. ومن السهل أن تستمع إلى نواب “مستقلين”، أو حتى مرتبطين بأحزاب أو كتل سياسية صغيرة أو كبيرة، ممن يمكنهم أن يثردوا في صحنك الكثير من الثريد الوطني والأخلاقي النزيه، ليقول كل واحد منهم إنه هو الشريف الذي ما بعده شريف. ولكن، حاول أن تجمعهم في قاعة. ولسوف ترى ما نوع الثريد الذي يثردون.
السبب، هو أن البيئة العامة نفسها، بيئة فساد وفشل. وهي بيئة يتحكم بها رجال العصابات الكبرى، الذين يقررون حدود اللعبة، وحدود قدراتك فيها. كما يقررون نهاياتها وغاياتها أيضا.
العصابات الكبيرة هي نفسها، تصدر عن خطاب، يا ويلي وسواد ليلي، كم أنه وطني وشريف ونزيه. حتى ولا كأنها هي التي نهبت وأجرمت وقتلت وشردت ودفعت العراق وشعبه إلى حضيض الحضيض.
والأمر أبعد بكثير من أن يكون مجرد “تقية”، تجيز قول شيء لتفعل آخر. ولا حتى ثقافة نفاق أو دجل. إنه حيلة مُتفق عليها حتى تُتمّ أغراضها.
والغرض الأهم بسيط : هدم هذا البلد حتى لا يقف فيه حجر على حجر، وتحويل شعبه إلى كائنات ضعيفة تنتظر فتات الموائد، أو تأكل بعضها. وهذا ما يحصل الآن بالفعل.
هذا الهدف ساطع في جلائه بالنسبة إلى غلمان الولي الفقيه. وهو هدف أكثر من 500 عام من تاريخ العلاقة الدموية بين العراق وإيران.
في هذه العلاقة، لا يوجد “مستقلون”. الصفة نفسها مستحيلة من الأساس. فالمرء إما أن يكون مع الخراب أو ضده. فإذا زعم أنه “مستقل”، فالسؤال البديهي هو: مستقل عن ماذا؟ وعمن؟ وهل يمكن للمرء أن يقول إنه “مستقل” عن الفساد؟ أيمكنه القول إنه “مستقل” بين الفاسدين؟ أو أنه “مستقل” بين الذين ساقت محاصصتهم الطائفية العراقَ إلى الدرك الذي يرقد فيه الآن؟
وسرعان ما سوف تكتشف أن مجرد فكرة أن تكون “مستقلا”، هي نفسها وجه آخر للدجل.
ليس ضربا من ضروب المستحيل على أي عراقي أن يُسطّر أجندة وطنية، وأن يُظهر التجرد والنزاهة حيالها، وأن يعرضها على أقرانه، ليجعل منها أجندة التزامات صارمة يفرضها على مَنْ يحتاجون إليه. هذا ليس من المستحيل. ولكنه سوف يُفاجأ بشيئين قبل أن ينقضي الوهم: الأول، أنه لن يجمع 40 مؤيدا. والثاني، لن تقبلها منه أيٌّ من العصابتين.الفتات سيعود ليكتشف أنه فتات طبخة فاسدة.