في 5 يناير من العام المنتهي نشرت مقالة بعنوان “أسئلة عام 2022”، حملت طلباً عراقياً موجهاً إلى الرئيس الأميركي جو بايدن، لشعوري وغيري من العراقيين أنه المسؤول الأميركي الأول عما يعيشه أبناء العراق من كوارث، إن كان يمكن له، في لحظة وعي، التوقف عن دعم حكام العراق الفاسدين ودعم نفوذ طهران المتعاظم. ما حدث هو العكس تماما، اندفعت هذه الإدارة الخبيثة في تقديم الدعم الدبلوماسي بتعيين سفيرة متميزة جديدة هي ألينا رومانوسكي، نشطت بشكل استثنائي في ترحيبها بحكومة منفذ قرارات الإطار التنسيقي محمد شياع السوداني وقدمت الدعم لها.من الصعب عزل الحالة السياسية عن العلاقة المباشرة بالسياسيين الأميركان بشكل أو بآخر. ويجب ألاّ يتوهم أحد من العراقيين أن المواطن الأميركي منشغل بالتفكير بدراما جوع الملايين من العراقيين ويتمهم، عمّا تقدمه له الإدارة الأميركية من حلول مباشرة تتمثل في انخفاض سعر الفائدة وسعر البنزين.
سياسات وإجراءات إدارة بايدن خلال عام 2022 كانت مهينة وفاضحة في دعمها للفاسدين في بغداد، رغم أن المسؤولين الكبار في واشنطن ومؤسساتهم البنكية لديهم وثائق روتينية تثبت أن المليارات من الدولارات تذهب من بغداد إلى طهران على قاعدة معرفة حركة دولارهم بسهولة.سذاجة لا ترقى إلى الإيحاء الأميركي بأنهم غير راضين عن هيمنة الميليشيات الولائية على مفاصل الحكومة العليا، وزراء وغيرهم، تكرمت السفيرة الأميركية بإعلان عدم تعاطيها اليومي المباشر مع مسؤولي الميليشيات ومندوبيهم الذين أصبحوا وزراء في حكومة السوداني الجديدة، في مفارقة عززت مواقف الدعم السياسي والإعلامي لمنظومة الفساد، ذلك يعني ببساطة: أيها العراقيون لا تنتظروا من بايدن وإدارته موقفا ينحاز إليكم ويخفف من آلام أسركم وجياعكم، فهذا ليس شأننا.
منذ مطلع 2022 حصلت تطورات ليست ذات قيمة سياسية مهمة، لكنها أحدثت تعديلات هامشية في مسيرة العملية السياسية المتداعية، أهمها الانقلاب السياسي لمقتدى الصدر، بعد مسرحية اقتحام مقر المنطقة الخضراء والبرلمان، حيث فجع أنصاره ومؤيدو مشروعه اللفظي بالثورة التي كانت بمثابة تسليم “الجمل بما حمل”، وختمها بوداع مهين للعملية السياسية.هيمن الإطار التنسيقي، كما خطط صاحبه نوري المالكي، على الحكم مجدداً، في تطور خطير على المستوى الشعبي والسياسي، كي تنفتح مظاهر مقززة غير منطقية لصفقات السرقات التي لا وجود لها حتى في أفلام مافيا المخدرات، على أرض عراق 2022، والشعب العراقي صامت.
يوماً بعد يوم يزداد مأزق الانغلاق السياسي على أصحابه من قادة الأحزاب، بسبب ما وصلت إليه فضائح السرقات المليارية، بينما العراق يتدحرج بشكل دراماتيكي إلى مهاوي الانهيار. لا شك ستأتي اللحظة التي يصعب معها صموده، وذلك مرتبط بالوضع الحالي لنظام طهران.إدارة بايدن غير صادقة في بياناتها حول استمرار مصالحها الإستراتيجية في العراق، وهل هي حقيقة تسعى لحمايتها لدرجة التفريط بصلاتها السرية مع القوى العراقية الولائية ثم مع طهران. لا أحد يشكك بأهمية العراق بالنسبة إلى واشنطن، خصوصاً أن أكبر المخاطر على تلك المصالح هو ترك الفراغ لطهران لتمارس المزيد من استباحة العراق ونهب خيراته وأمواله.
سبق لإدارة ترامب خلال عامي 2020 و2021، بسبب قلقها على قواتها العسكرية في العراق، أن طرحت مبادرة حوار إستراتيجي استنادا إلى اتفاقية الإطار الإستراتيجي بين بغداد وواشنطن، أعلنها وزير الخارجية السابق مايك بومبيو وكانت مهمة في حينه، فهو لديه المعلومات الاستخبارية بحكم موقعه الاستخباري السابق. لذلك سعى في مشروعه إلى الحفاظ على الأمن القومي الأميركي من الأضرار الأمنية اليومية مثلما حصل بعد الانسحاب الأميركي من العراق عام 2011. بومبيو أراد بقاء القوات الأميركية، وعدم سحبها في المستقبل يترابط بدعم ميداني للقوات العراقية، وتفتيت الميليشيات الولائية لإيران وعزلها عن منظومة الحكم ببغداد. لكنه فشل.نفس الهاجس الأمني جددته إدارة بايدن بمخاوفها من المخاطر التي هددت قواتها في العراق، وهي حالة لا تتعلق بإستراتيجية المصالح الأميركية فيه العراق. الواقع يقول إن الإيرانيين يعرفون مزاج الأميركان، ولأسباب جانبية تتعلق بالملف النووي الذي مات نهاية العام المنتهي، أوقفوا تلك الحملة العسكرية الفوضوية ضد الوجود العسكري الأميركي المحدود داخل العراق.
خارج الإطار الأميركي الرسمي، رغم عدم أهميته، هناك كمّ كبير من التقارير الاستخبارية التي نشرتها بعض مراكز البحوث خلال العام 2022، أعادت التأكيد على أهمية عدم ترك العراق لإيران. فعلى سبيل المثال نشر مركز “ستراتفور” الأميركي للدراسات الأمنية والاستخباراتية (الذي يوصف بالمقرّب من المخابرات الأميركية) تقريرا عرض فيه سيناريوهات الأوضاع في العراق. لا يرى التقرير أن الفصائل الشيعية المتناحرة ستتوصل إلى حل في أيّ وقت قريب، مما ينذر بالمزيد من العنف.في هذه الأجواء القريبة من حالة الانفجار، لا يمكن للنظام السياسي العراقي أن يرعى عملية انتقال سياسي بشكل سلمي، فطهران بصفتها اللاعب الخارجي الأكثر نفوذاً في العراق، وهي من أكثر الدول المهيمنة على الحالة العراقية قدرة على تهدئة التوترات من خلال المساعدة في التوسط في تسويات سياسية سريعة، لا تريد أن ترى فراغًا واسعا في السلطة بالعراق، قد يهدد حصيلة سنوات من بناء النفوذ في هذه البلاد.
من شأن انسحاب أميركي جديد أن يمكّن النظام الإيراني من الهيمنة الشاملة الخطيرة. لا شك العراق محور رئيسي لإستراتيجية الولايات المتحدة المتمثلة في احتواء توسّع النظام الإيراني الحالي ونفوذه. أهميته العراق في احتواء مخططات المرشد الأعلى والثوريين المتشددين و”الحرس الثوري الإسلامي” بالنسبة إلى الولايات المتحدة تفوق أهمية أيّ دولة عربية خليجية في المنطقة.يرى مركز “ستراتفور” الأميركي أن العراق يواجه حاليًا فترةً من الاختلال الوظيفي في الحكم والانقسامات الداخلية العميقة والمشاكل الاقتصادية الخطيرة. وفي حال تمكّنت إيران من استغلال مشاكل العراق للسيطرة عليه، وهذا ما هو حاصل، سيضاعف من هيمنتها. لكن، وضع النظام الإيراني في أدنى مستويات قوته بسبب الثورة الشعبية الإيرانية المتصاعدة، لن يسمح بأيّ فرصة لوجيستية لإحكام القبضة الإيرانية في العراق. صحيح أن تدفق الأموال مستمر، لكن هذا مرتبط بإجراءات أميركية وبموافقة إدارتها الحالية.
للولايات المتحدة مصلحة إستراتيجية في العراق لمواجهة مساعي روسيا والصين اللتين ترميان إلى بسط نفوذهما الاقتصادي والسياسي في البلاد. فالحكومتان، الروسية والصينية، تبذلان جهودًا حثيثة من أجل تعزيز نفوذهما في العراق على حساب الولايات المتحدة. ويمكن أن تفشل الاستثمارات المالية الأميركية في العراق في حال حلّت الشركات الصينية أو الروسية محلّ الشركات الأميركية. كذلك ستترتب عن احتمالات تخلّي واشنطن لصالح روسيا والصين، وهذا مستبعد، تداعيات تتخطى الحدود العراقية، وسيكون ذلك إشارة إلى دول أخرى في المنطقة على أن الولايات المتحدة هي صديق لا يمكن التعويل عليه.
هذه حقائق إستراتيجية وسياسية واقتصادية حول علاقة كل من واشنطن وطهران بالعراق، لم تتغير معالمها خلال عام 2022 إلا في جوانب التداعي الخطير في بنية النظام السياسي القائم في بغداد.العالم من حول العراقيين يتساءل: هل حقيقة هذا هو شعب الثورات الكبرى والقسوة المغالية والعنف والقتل، كما يوصف في الأوساط الإعلامية؟ لا تعطي مثل هذه المظاهر المذلة مبرراً في مهادنة سارق قوت الناس في جميع مفاصل الحكومة وبأحجام ومبالغ مليارية. والأكثر جنونا أن رئيس الحكومة الجديد يتحدث عن الإصلاح ومحاربة الفساد. وهذا أمر لا علاقة له بالمنطق المالي والأخلاقي والسياسي، نوع من الجنون المنفصل عن الواقع يتحرك باتجاهات ونتائج غير متوقعة “سرقة القرن” مثلا. وواشنطن تعرف الحقائق لكنها صامتة.
ينكشف للعالم البسيط، وليس للمؤسسات الاستخبارات العالمية فقط، أن وظيفة منظومات الحكم في بغداد كانت تأمين بقاء الحكم في طهران بأرصدة النهب المليارية، لكن ليس بشكل مفتوح كما هو الحال العام الماضي. خلال العام الجديد 2023 من المتوقع بعد الانهيار الدراماتيكي السياسي المفاجئ، الانتقال إلى انهيار وفوضى أمنية لا تستطيع الأحزاب تعطيلها.مرة أخرى، في العام 2023 هل ممكن توقع سيناريو لنهاية أغرب فساد في الدنيا، أم من الممكن تخيل شعب يهبط من الفضاء ويربط المجرمين بحبال المشانق وفق العدالة، ويقدمهم هدية للعراقيين. أم أن العراقيين سيقبلون هذه المذلة والإهانة التاريخية دون جراح جديدة تلحق بهم.بالمقابل، وليس مجرد خيال رومنطيقي ناتج عن تأثيرات التاريخ، كل دلائل المنطق والواقع السياسي والاجتماعي لمسيرة منظومة الحكم في بغداد تشير إلى انهيار مفاجئ سيصدم الجميع، أكثر عنصر مباشر فيه هو انهيار نظام طهران المتوقع. ليس بسبب أكذوبة سمجة تقول إن الرئيس بايدن قرر محاربة نظام الملالي. صحيح هو لن يحميه، بل سيدعه يسقط كما سقط الشاه على يد شعبه.