في العام 2009 فازت رواية “أخف من هواء” بجائزة كلارين للرواية، لمؤلفها الأرجنتيني فيديريكو جانمير، وصدرت بنسخة عربية عن دار مسعى للنشر والتوزيع سنة 2019 بترجمة محمد الفولي..
ومما قاله عنها بابلو دي سانتيس وهو أحد المحكمين (إن الرواية هنا تتقمص شخصية شهرزاد، لكنها شهرزاد تسعينية كابوسية تحكي من خلف باب موصد لشهريار مراهق كي لا تموت من الشعور بالوحدة) فما قصة هذه العجوز التي كانت ضحية فأصبحت جلاداً؟
هل حقاً أن كبار السن هم نبع المعرفة كما جاء على لسان بطلة الرواية، العجوز ذات الثلاث وتسعين سنة؟ إنه عمر طويل، لكن ما حدث معها ومع المراهق سانتياغو، أو سانتي كما تسميه، هو الزمن الأطول.
فالمراهق الذي دخل بيتها لكي يسرقها ولم يتوقع ما سيحدث له، تقوده حكاياتها الى أبعد من الزمن الذي لم يكن سوى أربعة أيام، حبسته فيها العجوز في حمامها بعد أن خدعته بالقول إن أموالها في صندوق داخل الحمام، وأقفلت عليه الباب، لم تبلغ الشرطة، ولم تخبر أحدا.
لقد وعدته بأن تطلق سراحه بعد أن يستمع الى قصة أمها، ليس عليه سوى الإنصات، وهكذا تصبح قصة الأم هي الثيمة الرئيسية للعمل، والتي ترتبط بالعنوان الذي اختاره فيديريكو جانمير لروايته “أخف من الهواء” لكن القصة تلك تتفرع الى حكايات متشعبة أثناء السرد الذي يرد فقط على لسان السيدة العجوز طيلة صفحات الرواية، من دون أن يشعر القارئ بملل إذ أن تلك الاستطرادات تزيد من التشويق حتى آخر صفحة.
الأم “ديليتا” الجميلة لا تظهر، كما بقية الشخصيات أيضاً، بل حتى المراهق سانتي المحجوز في الحمام لا نسمع صوته ولا نعرف ردود أفعاله إلّا من خلال ما تقوله العجوز، هذه هي التقنية التي اختارها المؤلف، وهو يقول في أحد حواراته (من لديه السلطة هو من يستطيع الكلام ويدير دفة الحديث)، وهكذا سنعرف من العجوز التسعينية قصة الأم التي لم ترها، لأنها ماتت بعمر الثلاثة وعشرين عاماً وكان عمر ابنتها عامين.
أما حكاية الأم فقد سمعتها من المقربين لها، وتنشطر تلك الحكاية الى أجزاء متفرقة لكثرة استطرادات العجوز.
إما بمقاطعات سانتي، أو ضربه على الباب، أو تركه على حالة لأن العجوز تريد إعداد الحساء لها، أو حان موعد نومها، ونحن لا نسمع صوت سانتي ولا ضرباته على الباب أو اعتراضاته، كل ذلك يأتي من خلال ما تقوله العجوز لنفهم ما حدث له، وكمثال على ذلك ما ورد على الصفحة 10 (لا، لا، هكذا لا، لن تتقدم المسألة أو تتأخر، لن تستفيد أنت ولن أستفيد أنا، اجتزت مرحلة الصبر الى نفاده في غضون ثانيتين، أنت شخص غير مستقر بصورة كبيرة، هذا هو انطباعي، من الأفضل أن أعد لنفسي كوباً من الشاي، استعد رشدك من فضلك).
وهكذا تتركه وتترك حكاية أمها، وحين تعود تتحدث عن أمور تخصها ثمّ تذكره بحكاية أمها الجميلة، التي كان حلمها أن تطير في الهواء، ليس كما الطير وإنما تقود طائرة، وهي مستعدة لأن تضحي بكل شيء مقابل حلمها هذا، ولكنها تتوقف عن حكاية الأم لنفهم على لسانها بأن اللص قال شيئاً، إن استطراداتها تثير أعصابه.
لقد كان الاتفاق أن تخرجه من محبسه بمجرد أن تنتهي قصة الأم، إلا أن العجوز تنتقل الى موضوع آخر (لا، لا أخرج عن صلب الموضوع، مسألة أبي ذات صلة، فقد مات من العار بسبب ما حدث لأمي.. لا تضحك، كان زمناً آخر للناس فيه شرف) ص12، وهكذا سنسمع الكثير من الحكايات التي تتوالد عن الأم وزمنها، والأب الذي مات من العار، وحكاية الخالة ألثيرا التي ربّتها بعد أن ماتت الأم بسقوط طائرتها، ولم تكن تحبها، وكثيراً ما تعاقبها بحرمانها من الطعام، وحكايات الرجال الذين مروا في حياة العجوز وكلهم سرقوها، وعن الوحدة التي تعيشها ولم تجد من تحكي له حكاياتها طيلة ما مر من حياتها، ويبدو أنها وجدت في نهايات عمرها من يستمع لها وإن كان الاستماع بالإكراه. أما نهاية الرواية، فأتركها للقارئ، تلك النهاية غير المتوقعة التي لم ترسمها العجوز ولكن شاء سياق العمل، أو شاء المؤلف أن يرسمها لعمله.