حين تعوز الباحث الحجة يلجأ الى المدونات، الى الصحف القديمة والبيانات الرسمية والرسائل او شهود العيان. الادب غير الوثائق وغير المدونات وهو المدون بعناية – اما حالات استنطاق النص، من خلال بعض مفرداته، فعملية نمارسها حين لا نملك سواها. فثمة مشكلة في اعتماد النص لأن استقرار السياق ليس نهائياً وليس ثابتاً للجميع.والقراءات ايضا تختلف نوعا ومستوى، نعم الادب يمكن ان يختزن اشارات اجتماعية او علمية، ويمكن ان يكون ادباً حسب بعيداً عن اي تقوّل او ظن. عموما نحن لا نمتلك ما يمكننا من القول بأية طريقة او كيف يضيء الادب المجتمع او يكشف عنه؟، دعنا من المقولات المتكررة والتي بحثياً لاتعني شيئاً، فكل ما نقوله يستوجب النقاش والتثبت، لكن ما نقوله بثقة كاملة هو ان مصادر الادب كثيراً ما تكون اجتماعية الأصول. أي أن المجتمع مصدر وبيئة لكل انتاج أدبي. ما يزال التساؤل: هل يحمل الادب مادة معرفية، معرفة صرفاً؟، هل يعوض عن وثيقة نحتاج لها ونعتمدها حاسمة شكاً؟، أم هو يقدم تصوراً عن حياة؟، هنا يتضح الفرق بين التصور والوثائقية، وبين التصور والمعلومة المؤكدة، ثم ان هناك مسألة صعب إغفالها، وهي ان ثمة ادباً يمكن وصفه بالنقي او الخالص. وهو أدب قليل النفع في هذا الشأن. لكنه يحظى باهتمام الدراسات الادبية لكبر أهميته. هذا الادب تمثله اعمال اليوت، بيكيت، وقد نضيف مارسيل بروست وفرجينيا وولف وبضعة آخرين.
قيمة هذا الادب كبيرة الوضوح للناقد الأدبي لا للباحث في الشأن الاجتماعي.. فلا هو وثيقة ولا فرضية او حقيقة علمية ولا هو تقرير شاهد عيان. لكن من التحليل والقراءة «الثانية»، او الناقدة، قد نستدل، عبر التصور الغائم، الى ما يسند أو يقلل الشك… وكما قلنا الادب ليس واحداً، ديكنز وغوركي وهمنغوي نمط وهنري جيمس وبكيت وفرجينيا وولف نمط.. ويمكن ان نستمر في التصنيف.مع هذه الشكوك وكثرة أسباب التردد من اعتماد الأدب في الكشف عن المعرفي، يواجهنا الأدب بحضور آخر، يضطرنا الخروج منه الى إعادة النظر. فماذا نقول بصفوف من كتب المذكرات والسيرة واليوميات وادب الرحلات والرسائل وتلك الكتب التي تجمع بين الفلسفة والادب؟، صحيح هي ليست وثائق ولا تضم قضايا وحقائق مما يتصل بالمعرفة، ولكن قراءتنا الدقيقة، المتبصرة، ترينا ما تريده الوثائق ووقائع الاحداث. ربّ نص يضيء لنا زمناً او حالاً أو يكشف اسباباً اغفلتها الصحف وكتب التاريخ، هكذا ادب لا يبقى ثانوياً في أهميته المعرفية والتوثيقية اذا ما توافر «زخم» حي في النص وحظي بقراءة ذكية له.لكننا في الادب معنيون بالطاقة الداخلية، بالقيمة الجوهرية، بالروح التي في الادب، والتي تسمى intrinsic، مؤكدة القيمة الذاتية للنص، هذه هي المعوّل عليها في التقويم الادبي وفي قدرة الاشارة الى الخفي والتي وحدها تفك الالتباس فنرى. وهي هذه المعوّل عليها في الحكم على اهمية أو عظمة السطور التي نقرأ، وهذه ايضاً هي التي يفتقدها الادب التهريجي المفرط في السذاجة او الآنية. وكل مسعى الكتاب الجادين ومطاولتهم ليحتفظوا بتلك الطاقة، تلك القيمة الذاتية وتلك الروح. القارئ المثقف، من يمتلك روح النقد لايهمه مما يقرأ غير ما أشرنا إليه. الادب المهاب، يعيد خلق كلية الخبرات الحياتية حكمةً، فهماً أو جمالاً ويقرّبها منا. لا بد هنا من إبعاد معنى الحكمة عن الموعظة وعن التمنطق العقلي، (الحكمة المقصوده هنا هي تلك التي تتصل بالجوهر). بينما الأدب يخلق كل تلك الحصيلة، الضوئية المشعة في تخوم النص، فنلامس في القراءة الحياة التي نعيش او التي نكتب عنها، اشعة النص الادبي تمر من خلالنا حين نقرأ، لتنقذ ما تنقذه من الفوضى. واهمية الادب قدر مايمر منه ومنا الى العالم. وهو هذا سرَّ الدعوة للابتعاد عن الهزال، عن العابر واللا معنى له. مهمة الادب العظيمة ان يجعل جوهر الخبرات لا يُنسى. وهنا يُبسَّط القول بتعبير: الادب ذاكرة الحياة. هو ليس ذاكرة فقط هو حياة تلك الخبرات. وهي في الادب، لم تذهب قشاً في الريح، هي الآن حياة داخل الحياة، ثمة ما يبعد الفناء.. واستسهال الكتابة معناه الابتعاد عن كل هذا الانشغال بعمليات شبيهة بصنع الفقاعات الملونة من اجل أن يفغر أبلهٌ فمَهُ او يركض طفل ظن لها كياناً، وقبل ان يصلها تغيب. طبعاً أشياء سريعة الانطفاء كهذه، لا حاجة لأن تستقر في كتاب.