تتحفنا قصص تأريخنا بكثير من الصور والحالات بصنفيها؛ المستحبة والمحمودة.. وكذلك المستنكرة والمستهجنة، ومن الصنف الأخير ما يكون أبطالها شخوصا لهم منزلتهم الاجتماعية، او ممن يعتلون ناصية القوم، إذ هناك مِن عليّتهم من يغالي بالإساءة ويتمادى بأذية رعيته، ناسيا أنه “راعٍ ومسؤول عن رعيته”. وبدل أن يغدق العطاء لمعيته ويجود بما يفوق أداء الواجبات المنوطة به، يفعل العكس تماما، إذ يوغل في نشر ضرره الى أبعد ما تصل يداه، فيمعن في انتقاء كل ما يسيء لرعيته، ويبعد كل ما من شأنه يعود عليهم بالخير، إذ هو “يدع اليتيم ولايحض على طعام المسكين”. فيكون إذاك من الذين “يراءون ويمنعون الماعون”.
وأمثال هؤلاء اليوم في عراقنا الجديد كثيرون، وهم كما أسلفت من عليّة القوم، ويشغلون مناصب مرموقة في ظرف يحتم عليهم أداء واجبهم بشكل مضاعف، ذلك أن التركات من العقود السابقة ثقيلة وثقيلة جدا. لكن، الحال يعكس غير هذا تماما، فأغلب ساسة اليوم يتسابقون في خداع المواطن، ويتبارون في تمويهه بأفعالهم قبل أقوالهم أضعافا مضاعفة. يذكرني أمرهم هذا بالمثل العربي: “أحشفا وسوء كيلة”.
إذ يروى ان هناك تاجرا كان يبيع للناس أردأ أنواع التمور، ومع هذا فهو لايعدل في الكيل بل يخسر الميزان، فأخذت الأعراب هذه الحالة مثلا لتشبيه من لايخلص في البيع مرتين، مرة في النوعية ومرة في الوزن. وهذا دأب أبطال الكراسي في مجالس عراقنا الثلاث اليوم.
ومن المؤلم أن كل هذا يحدث في زمن الديمقراطية، زمن الانتخابات الحرة النزيهة، زمن سعى المواطن فيه الى جبهات الاقتراع، واضعا روحه فوق راحته لانتخاب من يظنه يخرجه من ظلمات العهود السابقة، إلا أن حساباته على ما بدا لم تكن في محلها، ذاك أن الشخوص المنتخبة لم تكن في محلها الصحيح، فصح فيه قول الشاعر:
وأخوان حسبتهم دروعا
فكانوها ولكن للأعادي
وخلتهم سهاما صائبات
فكانوها ولكن في فؤادي
وكأنموذج مثالي يجسد تماما ما سبق من سطور مجلس نوابنا.. فهو بحق يخدعنا مرارا وليس مرتين، فجميعنا ينتظر بلهفة وشوق نتائج اجتماعاته، ذلك أن أعضاءه يشغلون منصب الممثلين عنا والناطقين باسمنا والموصلين أصواتنا والمداعين بمطالبنا والضامنين حقوقنا والمراقبين عمل المؤسسات التنفيذية، فمنا من علق أمله في الحصول على فرصة عمل بنتائج تلك الاجتماعات. ومنا من بات فاغرا فاه وأفواه عائلته بانتظار لقمة عيش كريم بتوظيفه في مؤسسة من مؤسسات الدولة. ومنا من يطمح برؤية بناء وعمران وصرح يقف شامخا في مدينته وقضائه وناحيته كما يراها في فضائيات (A.D) او (القطرية T.V) ومنا من يتحسر على رقعة خضراء في شوارع منطقته كتلك الواحات الغناء التي يشاهدها على قناة (Ajman) او (Kwait T.V). ومنا من يهوى استنشاق نسمات ليل دجلة بأمان كان قد فقدها لسنين خلت، ويتوخى بنوابه ان يحققوا له هذا في اجتماعاتهم. ومنا المتقاعد الذي شد الحزام على بطنه حتى أوشك ان يقطع خصره، على أمل مايخرج من كنف برلمانه من قرار فيما يخص المتقاعدين. ومنا الطالب الذي يأمل ان يكون صفه كالذي يسمع عنه في المدارس النموذجية الحديثة، بعد ان قضى سنته الدراسية بمدرسة لاتصلح لتعليم.. دار دور.. لأنها لاتحتوي على (W.C) كباقي الدور.ان كل ماذكرته في السطور السابقة غيض من فيض احتياجات العراقيين في محافظاتهم كافة، وكلهم آذان صاغية وعيون جاحظة تترقب بفارغ الصبر ما تأتي به اجتماعات ساستهم، علـّها ترفع من مستوى معيشتهم، وكفاهم ماعانوه، كفاهم كفى.