بوسع أعداء ثورة تشرين ان يكيلوا لها الاتهامات المعيبة والظالمة، او يشتموها بكلمات بذيئة وسوقية، او يشوهوا سمعتها او يطالبوا بإنهائها، سواء من قبل مرتزقة السلطة، او من قبل الساقطين أخلاقيا واجتماعيا. لكن ليس بوسعهم، مهما استخدموا من وسائل العنف والقتل، ان يوقفوا مسيرتها او يحدوا من انتشارها او يفتوا في عضدها. فالثورة دخلت، دون استئذان، في عقل الانسان العراقي ووجدانه. خاصة الفئات المسحوقة، التي تعاني من شظف العيش. وهذه الفئات تشكل غالبية المجتمع العراقي. وقد اعترف بهذه الحقيقة، رئيس الوزراء الأسبق، حيدر العبادي، في مقابلة تلفزيونية قبل عدة أيام، بقوله، “ان تشرين حظيت بتأييد أكثر من 70 في المائة من الشعب العراقي. الامر الذي وضعتنا هذه الإحصائية في مازق حقيقي”.
اما الذين يبشرون بفشل الثورة، واستحالة عودتها، جراء اختلال ميزان القوة لصالح السلطة، فهم اما اغبياء، او في أحسن الأحوال ذوو نظرة سطحية او ساذجة. فمثل هذا الاختلال يصلح للمقارنة بين الجيوش النظامية، وليس بينها وبين الحركات الجماهيرية، او الثورات الشعبية. فقد قدم لنا التاريخ عددا كبيرا من الشعوب، التي حققت الانتصار على قوة احتلال غاشمة، او اسقطت سلطة عميلة او حكومة قمعية. وخير مثال، الهزيمة التي الحقتها مجموعات صغيرة من المقاومة العراقية، في مدينة الفلوجة، بالقوات الامريكية المحتلة، التي لم يشهد تاريخ البشرية مثيلا لقوتها وجبروتها. وكذلك هزيمة قادة العملية السياسية بطريقة مذلة ومهينة، امام مئات من المنتفضين الذين اقتحموا المنطقة الخضراء عام 2017. ولولا تدخل مقتدى الصدر، والتحايل على المنتفضين واقناعهم بالانسحاب من المنطقة، لكان كل هؤلاء الأشرار يعيشون الان خلف القضبان، او في القبور. لا نعني بذلك ان ثورة تشرين ما زالت قوية كما بدأت، او انها ستهزم سلطة المحتل بسهولة، فهي تعيش حالة تراجع، فرضتها ظروف ذاتية وموضوعية قاسية، مثلها مثل انتفاضات الشعوب الأخرى، التي عانت من الظروف نفسها. فهي تتقدم احيانا وتتراجع احيانا اخرى، مرة تهدا ويخفت صوتها، ومرة تعود كالزلزال. خاصة وان ثورة تشرين تواجه عدوا شرسا، لم تواجهه أية ثورة شعبية في أي بلد في العالم. حيث تتمتع الحكومة بقوة عسكرية ضاربة، مدعومة من أحزاب لديها ميليشيات مسلحة ويحيط بها عشرات الألوف من المرتزقة. بالإضافة الى كل ذلك، تحظى الحكومة بدعم دولة عظمى مثل امريكا، وقوة اقليمية مثل إيران، ومباركة مرجعيات دينية مؤثرة، مثل مرجعية النجف. ان الانتقال من حالة التراجع الى حالة التوازن ثم العودة بقوة، إمكانية قابلة للتحقق في أي وقت. لكن ذلك لا يحدث بشكل تلقائي، او مصادفة، او ظهور منقذ او مخلص، وانما يتحقق بعد اجراء مراجعة شاملة، لا تقتصر على ادارة الانتفاضة او ترتيب اولوياتها، او تحديد مواعيد تجمعاتها، او اماكن تواجدها في هذه الساحة او تلك فحسب. وانما تشمل مجمل المفاهيم والخطط والاساليب التي استندت اليها، وأدت الى تراجعها، والبحث عن خطط وأساليب متطورة لشعار سلمية الثورة. وقد تجد القيادة ضالتها في تجارب الشعوب، التي غيرت مسارها وانتقلت من هذه الحالة الى حالة أخرى أكثر جدية وفاعلية. ان مراجعة كهذه ستحدث نقلة مهمة تغير النمط السائد للثورة، الذي جعل خطواتها رتيبة وبطيئة. وبالتالي ستضع الثورة على حافة الانتصار. ومن حسن حظ الشعب العراقي، ان ثورة تشرين قد قطعت اشواطا مهمة على هذا الطريق. فعلى سبيل المثال، كسر ثوار تشرين حاجز الخوف، بشجاعتهم النادرة، ولم يرهبهم سقوط اعداد كبيرة من الشهداء والجرحى. وهذا الامر يعتبر الأساس الأول لانتصار اية ثورة في أي بلد في العالم. إذ بدونه لن تتمكن، لا ثورة شعبية ولا مسلحة، من تحقيق أهدافها او الاقتراب منها، حتى إذا توفرت لها جميع المقومات الأخرى. أيضا الادراك العالي بثقل المهمة. فالفوز بوطن في ظل الاحتلال وهيمنة الطائفية السياسية بأوسخ صورها، وتغول المليشيات المسلحة، يتطلب تضافر عدة عوامل مترابطة، حققها الثوار في فترة قصيرة. بدءا بالتمسك بمبادئ الثورة المعلنة والتأكيد على مشروعيتها، مرورا برفض انصاف الحلول وانتهاء بنشر فكر الثورة بين عامة الناس وكسب تأييدهم ودعمهم بالإمكانات المتاحة لديهم. اما التنظيم السياسي الديمقراطي الذي انبثق من رحم التجربة الثورية الخاصة، فقد كان متفردا في بنائه، حيث ابتعد الى حد كبير، عن النمط القديم للأحزاب التقليدية، خاصة من الناحية التنظيمية. حيث اعتمد على لجان تنسيقية في كل مدينة، ولجنة عليا تنسق ما بين هذه اللجان. ومن أبرز معالم هذه اللجان وقوتها، ان اختيار أعضائها قد تم بعيدا عن انتماءاتهم وميلوهم وعقائدهم، لصالح جدية التعامل مع هذه الشعارات، وتجذير التفاعل الجماهيري العام والمؤثر لإدامة الزخم الثوري، وارتباطه في الوقت نفسه بالواقع المعاش، الذي تعاني منه الجماهير يومياً. اما الإنجاز الاخر، فهو الذي يتعلق باجتثاث حالة الياس والقنوط، التي سادت فئات عريضة من المجتمع العراقي. والتي حاول المحتل بكل ادواته، ترسيخها في عقول الناس الى الابد. فعلى الرغم من عدم تمكن الثورة محاكمة العملية السياسية وإنزال العقاب بقادتها، فأنها تمكنت من اقناع الناس بفشل السلطات المتعاقبة، وضرورة تغييرها عن طريق الثورة الشعبية، وليس عن طريق وهم الإصلاح من داخل هذه السلطات والعملية السياسية، التي هندسها المحتل بدقة، لتكون أداة فساد وقتل وتدمير لكل ما يتصل بالعراق والعراقيين. الامر الذي نقل المواطن العراقي من حالة الياس هذه الى التفكير بالحلول، وانهاء الأوضاع الشاذة. وهذا ما يفسر إصرار الجيل الجديد على التغيير، وطي هذه الحقبة المظلمة التي امتدت عشرين سنة. بمعنى اخر، ان المواطن العراقي اليوم على استعداد لأنهاء حالة الاضطهاد والبؤس، والدخول في رحاب الثورة لتحقيق حريته وصياغة مصيره. بل انتقل الى اتخاذ قرار عبر عنه بطرق مختلفة، ان لا يعيش كما في السابق مضطهدا وشقيا ومحروما من ابسط مقومات الحياة. ان تأخير النقلة النوعية التي تحدثنا عنها قبل قليل، قد يفقد الناس حماسهم، إذا لم تتخذ اللجنان التنسيقة اجراءات تحمي الثورة من محاولات الالتفاف عليها. ومن بين اخطرها، فتى إيران المدلل مقتدى الصدر وميليشياته الاجرامية. فهو يعد العدة للعودة الى العملية السياسية، بموقع أكبر بعد انسحابه منها لصالح غريمه نوري المالكي. ولم يعد سرا بانه يسعى لتوظيف ثورة تشرين لهذا الغرض. تحت ذريعة وحدة الصف المعادي للعملية السياسية ليتمكن، كما يدعي، من تحقيق اهداف تشرين كاملة. حيث ان الدخول في مواجهة مع ثورة تشرين، كما فعل في السابق لم تعد نافعة. كما ينبغي الحذر من ظهور نسخة ثانية من الشخصيات، التي برزت خلال الثورة وتم شراؤها، مثل علاء الركابي والشلة المحيطة به، وفسح المجال امامها للحصول على مقاعد في البرلمان باسم ثورة تشرين. اما الترويج لما سمي بالمشروع الأمريكي القادم، فهو يشكل خطرا جديا لما تضمنه من ادعاءات كاذبة وصور وردية. حيث اشاع الاعلام الأمريكي، سيناريو لتغيير الوضع في العراق. يقوم على انهاء المليشيات المسلحة، او نزع أسلحتها او تصفية قادتها. ومحاسبة الفاسدين. ولكي يكون هذا السيناريو مقبولا وقابلا للتصديق، يجري تسويق رئيس الحكومة محمد شياع السوداني، على انه الرجل الذي اختارته أمريكا لتنفيذ هذه المهمة، والمؤهل لإعادة بناء العراق. ان أمريكا التي تهدف من احتلالها للعراق، تجريفه دولة وشعبا وهوية، لن تجد اسوا من هذه الزمرة، التي أعلنت سقوطها السياسي والاجتماعي والأخلاقي، واستعدادها لبيع العراق لمن يشتري مقابل بقائها في السلطة. وفق هذا السياق، فان احياء ذكرى ثورة تشرين، وخروج الثوار الى ساحة التحرير في بغداد وعدد من ساحات التحرير في البصرة والناصرية والنجف، منح الامل باستمرارية الثورة والإصرار على التغيير، ودحض الادعاءات التي حاولت تقزيمها، او اقناع الناس بوفاتها على حد تعبير الاعلام المعادي. لقد وفر متزعمو العملية السياسية الأرضية المناسبة جدا لنجاح الثورة. فهؤلاء الأشرار مصرون على المضي في تدمير البلاد والعباد، وحرمان المواطن من ابسط حقوقه المشروعة، في العيش الكريم في بلد يعتبر في مقدمة بلدان العالم الغنية. بل يرفض هؤلاء الاشرار تقديم أي خطوة إصلاحية ذات قيمة، او حتى التنازل عن أي مكسب من مكاسبهم غير المشروعة. الامر الذي سيزيد من حدة الاستياء الشعبي وبالتالي اللجوء الى ثورة تشرين كمنقذ لهم.