فجر كاذب من بكين للاستقرار في الشرق الأوسط

فجر كاذب من بكين للاستقرار في الشرق الأوسط
آخر تحديث:

بقلم:د. هيثم الزبيدي

في أكثر من صورة من صور اللقاء الذي تم بين مستشار الأمن الوطني السعودي مساعد بن محمد العيبان وعلي شمخاني الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، كانت لغة الجسد تكشف تشككا بين الطرفين من نوايا الآخر. لا يمكن التعويل على الابتسامة الصينية التي ارتسمت على وجه كبير الدبلوماسيين الصينيين وانغ يي. الصينيون دائما يبتسمون، ولا تستطيع أن تقرأ على وجوههم سعادة أو غضبا أو حزنا. السعوديون والإيرانيون لا يجيدون رسم مثل هذه الابتسامات على وجوههم.

الوساطة الصينية تمكنت من جعل الطرفين يوافقان على عودة العلاقات خلال إطار زمني قريب. هو دور يحسب للصينيين، خصوصا وهم يتقدمون بشكل ثابت في فرض حضور منافس للغرب. لكن بقراءة وضع السعودية وإيران، لا تستطيع إلا أن تستنتج أنّ الطرفين كانا يبحثان عن وسيط ذي قيمة اعتبارية كبيرة، بل وتنافسية، تقدم من خلاله إعادة العلاقات. من الصعب تخيل أن الصين تفهم سياسيا ودبلوماسيا البلدين أكثر من فهم سلطنة عمان للسعودية وإيران كل على حدة، وفهمها لطبيعة المشكلات والأزمات التي تعكر العلاقة بين الرياض وطهران. في جانب كبير من الإعلان القادم من بكين ثمة استعراض علاقات عامة للثلاثي، كلّ لاعتباراته الخاصة.

فكرة أن إيران تغيرت، أو تتغير، كي تسترضي السعودية ويتفق الطرفان على إعادة العلاقات، صعبة على القبول. إيران لا تتغير. إيران مشروع وليست دولة فقط. التغير في المشروع يعني انعدام جدوى ولاية الفقيه وتراث الخميني وفعل المرشد الأعلى علي خامنئي. ماذا يفعل الحرس الثوري وفيلق القدس إذا حدث التغيير؟ التغيير يعني أول خطوة لانسحاب إيراني من الإقليم وتراجع عن أهداف كبرى. التغير يعني أن كل المكاسب التي تحققت لصالح المشروع الإيراني منذ اندلاع حرب تحرير الكويت عام 1991، وبشكل أكبر بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، ثم استغلال مقتل الحريري وخروج السوريين من لبنان وسيطرة حزب الله على البلد، ثم الاستفادة من أجواء الحرب الأهلية السورية للوصول إلى المتوسط، والاستثمار في حماس والميليشيات الولائية و”فاطميون” و”زينبيون” وانهيار حكم علي عبدالله صالح ووصول الحوثيين إلى الحكم في اليمن، كل هذا الآن على المحك في صفقة تبادل بماذا؟ بسفير سعودي في طهران وسفير إيراني في الرياض؟ لا الدكتور العيبان خريج هارفارد وابن مؤسس المخابرات السعودية أو الأدميرال شمخاني ابن مؤسسة الحرس الثوري والجيش معا، بهذه السذاجة لقبول كل هذه مقابل سفيرين.

ثم ما أهمية السفراء في أيامنا هذه؟ السفراء أنتيكات من تراث الدبلوماسية. السفراء الحقيقيون اليوم هم وزراء الخارجية الذين يقضون على متن طائراتهم وقتا لا يقل عن الوقت الذي يقضونه على مكاتبهم. تغيرت مهنة الدبلوماسية، بل وأصبحت تضم من بين من تضمهم الزعماء السفراء، وهم قادة الدول الذين يأخذون قضايا العلاقات على عاتقهم متسلحين بترسانة العمل الاستخباري والمعلومات أكثر من تقارير السفراء في هذا البلد أو ذاك. عودة السفيرين السعودي والإيراني لو تمّت، ستكون رمزية على أبعد اعتبار. أما القول بأنها انفراجة في العلاقات، فهذا ينسف كل قراءة لوضع الإيرانيين في الإقليم، أو لفهم السعوديين لما يريد الإيرانيون تحقيقه، في المنطقة الشرقية في السعودية قبل أيّ مكان آخر في الخليج أو الشرق الأوسط. الأزمة، لمن نسي تفاصيلها، اشتعلت بعد إعدام الشيخ نمر النمر بتهمة التحريض الشيعي في السعودية لصالح إيران.

مؤخرا بدت السعودية وكأنها تجبر إيران على الشرب من نفس الكأس التي يسقي بها المشروع الخميني الآخرين. إيران نفسها اعترفت بأن التحريض السعودي السياسي والإعلامي كان من مسببات الانتفاضة التي اندلعت مؤخرا وأدت إلى مقتل المئات واعتقال الآلاف. السعودية تمتلك الكثير من الأدوات الضاغطة على إيران سياسيا، والأهم اقتصاديا. واحد من أهم أسباب عدم قدرة النفط الإيراني على العودة إلى الأسواق بسبب العقوبات، هو أن الإنتاج النفطي السعودي قادر في أغلب الأحيان بشكل مباشر أو عن طريق التوافقات في أوبك وأوبك+، على تعويض الإنتاج الإيراني.

النموذج السعودي يتقاطع مع النموذج الإيراني. وللدقة، فإن النموذجين السعوديين، القديم والمعاصر، يواجهان النموذج الإيراني. النموذج القديم، أي السعودية السلفية أو الوهابية، هو مشروع الضد الديني للمشروع الشيعي الإيراني. لولا أحداث سبتمبر وانكماش المشروع السعودي خوفا من ردود الفعل الغربية الانتقامية، لكان الصدام بين السلفية السعودية والشيعية الإيرانية بلغ أوجه اليوم.

النموذج الجديد، وهو نموذج الانفتاح والتغيير الذي يقوده ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، لا يقل خطرا عن النموذج القديم من وجهة نظر إيرانية. السعودية اليوم تسير في نسق عصري في أوجه مختلفة، في حين تصر إيران خامنئي على اجتثاث آخر ملامح الروح العصرية المتبقية في المجتمع الإيراني والموروثة من عصر الشاه. القلق من انفلات السيطرة على المجتمع الإيراني كبير لدرجة لا تتردد معها القوات الأمنية من البطش بالمحتجين على مقتل شابة على يد الشرطة الدينية لم تفعل أكثر من أنها كشفت عن شعرها. حركتان متعاكستان، واحدة مع التطور وعلى إيقاع التغيير في التاريخ، وأخرى مضادة للعصر والتاريخ.

من الصعب تحديد الأسباب التي دفعت السعودية إلى التحرك والتقارب مع إيران، حتى بمسمّى دبلوماسي. إيران بلد مؤذٍ وممعن في الانتقام ويستغل أيّ فرصة للعدوان على جيرانه. عندما أصبح المشروع الحوثي في اليمن على المحك، تحركت إيران ووجهت ضربتها الكبيرة للمنشآت النفطية السعودية في أبقيق. ولا يخفي الحرس الثوري استعداده للانتقام من دول الخليج في حال بادرت إسرائيل وضربت المشروع النووي الإيراني. هل السفير السعودي في طهران أو السفير الإيراني في الرياض يقدران على منع مثل هذا الفعل الانتقامي لو حدث ونفّذت إسرائيل تهديدها؟ لا أظن. لكن بالتأكيد أن السعودية تضع هذا في الاعتبار، خصوصا مع قناعتها بأن الولايات المتحدة قد لا تتحرك ضد إيران إذا هاجمت منشآت خليجية. مرة أخرى نستعيد رد الفعل الأميركي الصفري أمام هجوم أبقيق. تقول السعودية لإيران ها نحن نقيم معكم علاقات طبيعية وعداوتكم مع إسرائيل لها أسبابها البينية، ونحن لسنا جزءا منها. سيصعب على قادة الحرس الثوري فهم ما تريد السعودية إبلاغه لبلدهم.

مناطق التنازع المشتركة بين السعودية وإيران بين محسومة أو تميل إلى الحسم. لبنان بيد حزب الله، والحوثي متمترس في مناطق واسعة من شمال اليمن، والإطار التنسيقي والميليشيات الولائية يحكمان العراق، والقضية الفلسطينية ورقة بيد إيران سواء عبر المزايدة الإعلامية أو السيطرة على الأرض عن طريق حماس، ونظام الأسد لا يزال يعتمد في وجوده على الدعم الإيراني بالخبراء والأسلحة والميليشيات وحزب الله. في المقابل تم احتواء التهديد في المنطقة الشرقية من السعودية، وتبدو الأمور هادئة بما يكفي في البحرين، وأقلعت إيران عن عادة تهديد الحج بالتظاهرات. اللقاءات القادمة بين وزيري الخارجية السعودي والإيراني ستكون فرصة لالتقاط صور ربما بشكل أقل كشفا للتشكك من صور العيبان وشمخاني، وسيقدم السفيران أوراق الاعتماد في العاصمتين. أما هل من الوارد أن تتغير الأمور على الأرض، أو أن تنجح إيران في اختبار التغيير والثقة، فهذا صعب. بعد أربعين عاما من انطلاقة المشروع الإيراني الخميني، لا يمكن إلا الانتباه إلى أن ما شاهدناه في بكين قبل أيام ما هو إلا فجر كاذب للاستقرار في الشرق الأوسط.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *