اربكت نتائج الانتخابات العراقية الاخيرة الوضع السياسي بشكل كبير .
واظهرت تباين واضح في وجهات النظر بين قوى ومكونات الفائزين بالانتخابات وبين المعسكر الرافض لنتائجها ، هذا المعسكر الذي ضم الميليشيات الولائية والقوى التقليدية الماسكة لزمام السلطة ، فانتظم تحت ما يعرف بـ”الإطار التنسيقي “. يقابله انصار السيد مقتدى الصدر الفائزين باكثرية المقاعد . وكذلك الاحزاب الكردية بالتنسيق مع الكتل والاحزاب السياسية السنية .كان ذلك نتيحة متوقعة رغم انها متأخرة للاخطاء الكبرى التي وقعت فيها الإدارة الأمريكية، وقادت إلى الحالة الراهنة بعيدا عن الصورة النمطية للعراقيين .
حيث نجح السياسيون الاوائل عند تأسيس الدولة العراقية في بناء دولة قادرة على الازدهار والتطور . فجرها الأمريكيون عام 2003 بديمقراطية مفروضة مزيفة ، تسببت في جعل العراق مجتمعات قبلية وطائفية .إن التحليلات تُـشير إلى أخطاء مُـميتة في الطريقة التي اتُّـخذت بها الولايات المتحدة قرار الحرب على العراق ، والتقديرات الخاطئة لرد فعل العراقيين، وعدم وجود تصور أو خطة للكيفية التي تُـدار بها مرحلة ما بعد نهاية العمليات العسكرية، يضاف الى ذلك فشل استخباراتي لا حدود له في الحصول على المعلومة وتحليلها، ثم أخطاء ترتبط بقرارات كبرى، كالاجتثاث وحل الجيش والشرطة دون التفكير في البدائل أو العواقب المترتبة على ذلك ، اضافة الى العجز عن التعامل الانساني مع بعض المكونات ، والاساءة في التعامل مع القوات المسلحة .
إن ما يحدث داخل العراق في الوقت الحالي يُـمثل مشكلة بنيوية حقيقية للنظام السياسي الذي تشكل بعد سقوط نظام الحكم السابق ، حيث لم يسقط النظام وحده بل سقطت مؤسسات الدولة العراقية بما فيها الإدارية والصناعية والزراعية والصحية والتعليمية والخدمية وغيرها من الفعاليات اللازمة لبناء واستمرار الدولة .أن هدف التحول الديمقراطي الذي استند اليه مشروع الاحتلال العسكري للولايات المتحدة في العراق ظل معطلا ، خلف واجهة ديموقراطية مضللة تفتقر الى منظمات المجتمع المدني او الحريات العامة ، واستندت على انتخابات مشوهة ومزورة لاتعبر عن ارادة حقيقية للناخب العراقي .ولم تحقق الديموقراطية الزائفة في العراق سوى العنف الطائفي ، والإرهاب ، والفقر ، وانتشار السلاح ، والجريمة المنظمة ، وعدم الاستقرار السياسي ، والفوضى وتدني القيم الاجتماعية .
لكن هذا الفشل لا يمكن فهمه على أنه نتاج بسيط للحرب والعنف الشديد الذي رافقها فقط ، بل هو ايضا نتاج النظام الطائفي والمحاصصاتي ، والتمزقات السياسية ، والفشل المؤسساتي والفساد والمحسوبية . وتسييس القضاء واضعافه .كيف يمكن تبرير عدم القدرة على إدانة المتورطين في جرائم بسبب انتمائهم الحزبي أو الميليشياوي؟ كيف نصف نظاما يدعي الديمقراطية وهو يقود حملة إعدامات واسعة النطاق ضد مئات الشباب لتنظيمهم احتجاجات سلمية وعفوية؟
وهل يعقل أن سياسيين ووزراء يعلنون جهارا نهارا بيع وشراء مناصب في الدولة . والتبجح باختلاس اموالها بلا خوف او عواقب !إنّ الفساد المستشري والبطالة والفشل الكبير في مفاصل الدولة المختلفة ، والفقر وانحسار المشهد الثقافي والعلمي ، وعدم إيجاد حلول للبنى التحتية وتسييس الدين ، وغيرها تسببت في فشل الديموقراطية في العراق ، ويتجه النظام السياسي يوما بعد يوم نحو الاستبداد نتيجة هيمنة السلاح المنفلت على حساب كرامة المواطن وهيبة الدولة ، حتى اصبحت الديموقراطية العراقية محل تندر واستهزاء .
وسوف تظل المشكلة قائمة، طالما لم يتم التوصل إلى حلول سياسية ناجعة تتسامى عن النزعة الانانية والمصالح الضيقة .ويبدو ان تجاوز الازمات وايجاد الحلول بعيد كل البعد عن الطبقة السياسية الحاكمة وان الامر يتطلب معالجات حاسمة تؤدي الى تغيير شامل للعملية السياسية القائمة .وعلى المجتمع الدولي أن يفهم ان شعار ” نريد وطناً ” الذي رفع في انتفاضة تشرين/ أكتوبر 2019. كان يدعو إلى نظام سياسي نزيه وامين يوفر الحد الأدنى من الحياة الكريمة لمواطنيه .
ان على السياسيين ان يدركوا ان موازين القوى اليوم تختلف عن تلك التي كانت سائدة ابان الاحتلال الامريكي للعراق عام 2003 . كما تبدلت التحالفات التقليدية وظهرت قوى اجتماعية فتية قادرة على التحدي وتطوير اداءها سياسيا واجتماعيا . واحداث نقلة نوعية في التفكير الجمعي بالتزامن مع ازدياد الوعي السياسي والاجتماعي ، وستشكل في المحصلة النهائية قيادات تؤمن بالديموقراطية وحقوق الانسان ، وتعمق قيم التسامح والانفتاح على الثقافات المتنوعة ولديها الامكانات اللازمة لاعادة الدولة الى مسارها الصحيح .