من المعلوم بأن فلسفة الاستقلال الاقتصادي المبنية علی أساس العقل والتعقل و الفكر والتفكير تلعب دوراً مهماً في زمن التواصل والعولمة والتحولات المجتمعية الكبرى و الانتشار التدريجي لثقافة “ميركانتيلية” قوامها تحويل كل “شيء” إلى بضاعة، أي إلى شيء معروض في السوق قابل للبيع والشراء.
ما يفرحنا اليوم في عصر التعدد، تعدد المناهج والنماذج، أو الأقطاب والمراكز، سواء على صعيد العلاقات بين الدول، أو داخل كل دولة، هو مشاهدة الحضور القوي لإقليم كوردستان علی الساحة الإقتصادية العالمية، بعد أن قامت حکومته بعقلنة التدبير الإقتصادي و بعد أن قام المجتمع الكوردستاني بالعمل علی نفسه في مختلف الحقول والقطاعات و بمختلف قواه و فاعليته لإجراء التحولات البنيوية يطال اللغات والعقليات والشيفرات و أنظمة الحقوق وقواعد المعاملة و التي ينتقل معها إلى وضع جديد و بعد إجتياز الكثير من العيوب والمساویء والتناقضات التي إنكشفت بعد سقوط النظام الديكتاتوري في العراق و إنهيار سلطته القمعية و بعد تحرره من المفاهيم والنماذج والقيم والأساليب التي كانت متأصلة و راسخة لعقود من الزمن، تلك المفاهيم و النماذج التي كانت مبنية على حجب الوقائع وتزييف الحقائق، بقدر ما كانت تمارس الخداع والتضليل للذات وللغير و التي كانت تٶمن بأن المجتمعات العراقية يجب أن تتغير من خلال ذوبانها في فكرة العروبة و الثورة القومية و قائد الضرورة، لا عن طريق الإبتكارات الخلّاقة و الإستعارة بالأفكار المعاصرة لصنع الحياة و المشاركة في صناعة الحضارة.
إن عمل الإقليم علی فلسفة إقتصادية تمهد الطريق لإستقلاله و تٶثر بشكل إيجابي علی مستقبل و أمن المنطقة و تطور العملية الديمقراطية فيها و تضمن في الوقت نفسه أهداف حكومته في الحرية والعدالة والكرامة من أجل إقامة مجتمع تعدّدي، مدني، تداولي، ديمقراطي، هو الذي جهّز لشعب كوردستان هذه الرفاهية و هذا التقدم الملحوظ، بعد سنوات من النضال ضد الجرثومة السرطانية البعثية الفتّاكة و القوی القوموية، التي مارست الإستبداد والفساد والتخلف و سعت في تشليل طاقات شعب كوردستان الحيّة والخلاّقة على تحديث أبنيته واستغلال مقدّراته، لمنع ضمان نجاحه في صنع نموذجه في التنمية. عالمنا اليوم والعالم المستقبلي هو عالم التكتلات، عالم الشركات والاستثمارات الكبرى، عالم الثقافة والمعلوماتية والمتغيرات الإقتصادية للعولمة، تتركز فيە نظرية ‘الليبرالية الجديدة”، التي تری في رفع الحواجز والحدود أمام انتقال رأس المال وتحرير التجارة وخصخصة المشروعات الحكومية والتقليل من شأن الدولة من التدخل في النشاطات الاقتصادية تمهيدَ طريقٍ أمام الإنتقال من منطق القرار الاقتصادي لسلطة الدولة المركزية إلى منطق القرار الاقتصادي المعولم، الذي تديره المؤسسات والشركات العابرة للقومية.
بالرغم من ظهور ملامح (دولة الإقليم) التي تتشكل من منطقة اقتصادية تربط بين أجزاء من بلدان مختلفة تهمش الولاءات الوطنية، نری السيد المالكي، رئيس الحكومة في العراق الفدرالي، يمارس الی الآن وللأسف منطق القرار المركزي و يحاول بشكل بائس الی إعادة تطبيق نظام مركزية القرار بإعتبار أن الأحقية والمشروعية تابعة للمركز، بعد أن تغلب عندە الاعتبارات الايديولوجية والاستراتيجية المذهبية على هموم الإقتصاد ومشاغل البنية التحتية. فهو يرفع من شأن منطق “المنظومة” الأيديولوجية الحديدية التي تشتغل بالقولبة والتطويع والتدجين أو بالشحن والتعبئة و يرفض فكرة إقامة هيئات إستشارية ثنائية “كوردستانية-عراقية” في مجالات السياسة و الإقتصاد والإجتماع، مهمتها تقييم واقتراح السياسات المستقبلية في هذا المجال و تحديد الاختلافات وسبل معالجتها، أو وضع استراتيجية بناء القدرة التنافسية والتي تعد من أهم عناصر الاستراتيجية العليا للتنمية الشاملة، بعد تبني اللامركزية الإدارية من أجل تفعيل الديمقراطية المحلية. إذ لا نفع في الكلامي و التهديدات لمنع حكومة الإقليم في الاستمرار بالتعاقد مع شركات الطاقة العالمية أو منع الشركات النفطية العالمية للتعامل مع إقليم كوردستان والسعي في مقاضاتهم.
و إنه من التبسيط والغفلة أن نصدّق برنامجه الإقتصادي و سياسته النفطية العقيمة، التي تٶول الی الإخفاق، بعد صنع كل هذه الأزمات و ممارسة الانتهاكات و الدعوات التي تشدّد من رٶاه الخاصة و تفسيراته القاصرة علی الوحدة الوطنية المزيفة و بناء الترسانة العسكرية، تلك العملة، التي تعيدنا إلى الوراء ولا تصنع نمواً أو ازدهاراً، بل تحول القوة إلى غطرسة. إن دينامية الحداثة وفّرت شروط سوسيولوجية متربطة باستقلالية أكبر للفرد و لوعيه بذاته و بمسؤوليته و لتمتعه بقسط أكبر من حرية الاختيار، لينبثق كذات فاعلة في كل المجالات وبخاصة في المجال السياسي كمواطن فاعل، ذي حقوق. ففي ظل العراقيل التي تضعها الحكومة الفدرالية أمام جهود شعب كوردستان في تعزيز بنية و فاعلية مؤسساته الكوردستانية سوف يرقی و يعزز الحكم الرشيد و يرسخ الی منزلة الهدف الوطني في حد ذاته.
وختاماً يقال بأن “المشروع الذي لا ينتج مؤسسة ينتهي بوفاة صاحبه و المشروع الذي لا يبدع منهجاً لا يستحق أن ينعت بالفلسفي”.