فيلم (الظامئون): تأسيس للواقعية التسجيلية في السينما العراقية
آخر تحديث:
بغداد/شبكة أخبار العراق- مع انطلاقِ مشروع “أفلام لا تموت” لا بد من التأكيد على أن سلسلة الأفلام التي لا تُنسى في العالم العربي خاصة، هي أفلام تنتمي إلى الحقبة الزمنية التي ظهرت فيها، وكيف أثرت في مسار السينما في تلك الحقبة وماذا أضافت تعبيريا وجماليا. الأمر ذاته ينطبق على فيلم “الظامئون” للمخرج العراقي محمد شكري جميل، وهو عمل شكل علامة فارقة في مسار التجربة السينمائية في العراق. فقر تلك التجربة السينمائية وتواضع منجزها حتى الآن، جعلا من بعض الأفلام التي أُنتجت في مراحل متفرقة من تاريخ السينما العراقية بمثابة نقاط تحول ومنعطفات مهمة. واقعيا طبعت تجربة السينما العراقية ما قبل هذا الفيلم ميزات قربت الفيلم العراقي، خاصة في حقبتي الخمسينات والستينات من القرن الماضي، من الحياة اليومية، بحكايات وتفاصيل للبيئات الشعبية، الشخصيات التي تتراوح بين الطبقات الفلاحية أو هامش الطبقة الوسطى، شهدت على ذلك أفلام مثل “من المسؤول” (1954) و”سعيد أفندي” (1957)، و”الحارس” (1967) و”الجابي” (1968) وغيرها.
ليأتي فيلم “الظامئون” بمثابة تحول افتتح حقبة السبعينات من تاريخ السينما العراقية الذي شهد أفلاما أكثر نضجا وحضورا جماهيريا. بدأ تصوير الفيلم في أواخر العام 1971، وبدأ عرضه الجماهيري الأول في خريف العام 1972 في سينما النصر وسط العاصمة بغداد. ولعل من المعطيات المهمة في هذا الباب هو التوقف عند الأداء الأقرب إلى لغة وأسلوب المسرح، أو إلى شكل وأسلوب التمثيليات التلفزيونية، عزز ذلك أن السواد الأعظم من ممثلي السينما في العراق هم ممثلون مسرحيون في الغالب ولهم منجز مسرحي مشهود، ومنهم خليل شوقي وناهدة الرماح وسامي قفطان وغازي الكناني وغيرهم، وجميعهم احتشدوا في فيلم “الظامئون”. يحكي الفيلم قصة قرية عراقية تعاني من الجفاف وهي التي يعمل سكانها في الفلاحة والرعي فيكون الجفاف سببا في تهديد وجودهم ومستقبلهم، مما يدفعهم إلى أحد أمرين؛ إما المقاومة والصبر وإيجاد بدائل من خلال حفر البئر ويقود هذا التصور الزاير أبو هاشم (الممثل خليل شوقي الذي توفي في العام 2015) وابنه هاشم (الممثل سعدي يونس)، أو اليأس من القرية وأوضاعها المزرية وهي رؤية يقودها حسين (الممثل سامي قفطان) وهو الذي يحرض على النزوح باتجاه العاصمة. استخدم المخرج وكاتب السيناريو ثامر مهدي والحوار لخليل شوقي، في إعدادهم للرواية التي تحمل ذات الاسم للكاتب عبدالرزاق المطلبي، تنوعا ملفتا للشخصيات مع محدودية المكان ومحدودية التحولات الدرامية في آن معا. وشمل ذلك شخصيات تميزت بالسلبية واكتفائها بالفرجة والشماتة من أبي هاشم، وإعلان لا جدوى ما يقوم به من حفر يومي بحثا عن الماء. وهنا سيكون من الملفت للنظر أن الشخصيات لا تتكشف خواصها وطباعها إلا عندما تجتمع لتداول شؤونها، حيث يجري على الألسنة حوار ريفي متكلف أحيانا من ممثلين ذوي لكنة بغدادية في الغالب محاولين السيطرة على الكلمات ومخارج الحروف. ويتفرع عن تلك الفئة السلبية نموذج حسين الانتهازي الذي يحرض على النزوح إلى المدينة من جهة، واستغلال غفلة الآخرين من جهة ثانية، للتسلل إلى منزل الأرملة حليمة (أدت الدور ناهدة الرماح التي توفيت عام 2017) لإقامة علاقة في الخفاء معها تنتهي بحملها منه وإنكاره ذلك، لكنه ما لبث أن تخلى عنها للتقرب من حسنة (الممثلة فوزية عارف) وسعيه للاقتران بها.
هذه الخطوط السردية التي عزفت على العلاقات الاجتماعية الهامشية كانت تتوازى مع الخط السردي الأساس الذي تمثله شخصية درامية رئيسية من خلال أبي هاشم الذي يكافح بصمت تجاهل القرية له، فضلا عن عدم إفصاحه عن مشاعره تجاه الأرملة حليمة برغم عدم معالجة هذا الجانب دراميا. وبموازاة ذلك تم تصعيد الدراما الفيلمية من خلال المواجهة ما بين هاشم وحسين التي تنتهي بضرب الأخير والذهاب إلى مجلس عشائري لمحاسبة هاشم على فعلته، فيما تكمن وراء ذلك حسنة التي يريدها هاشم لنفسه بينما ينافسه حسين عليها. لا شك أن فيلم “الظامئون” يقدم نموذجا لصورة المرأة في السينما العراقية، فالشخصيات النسائية يجري تكرار توصيفها من وجهة نظر ذكورية في أكثر من موضع بأنها ليس بإمكانها العمل سوى في الرعي أو المنزل، بينما كان تحدي الجفاف قد جمد وجود الرجال أنفسهم. الحاصل أننا أمام ثلاث شخصيات نسائية كل واحدة منها كانت تعيش على الهامش الاجتماعي ولا تستطيع الخروج عنه ولكل منها خاتمة غير مفرحة، حليمة تنتهي منتحرة، حسنة تنتهي مسلوبة الإرادة بموافقة والدها تزويجها لحسين رغما عنها، وزهرة التي بقيت حزينة ومنكسرة بانصراف ابن عمها عنها. ولعل من الملفت للنظر هو حضور الممثلة ناهدة الرماح التي مثلت دور الأرملة، فقد اختصرت كثيرا من التوصيفات في تقديم شخصية درامية متماسكة وحاضرة بقوة في تلك البيئة المغلقة. وإذا كنا قد أشرنا إلى الطابع التسجيلي اليومي الذي ميز الفيلم فإن ذلك قد امتزج بهامش واقعي واسع، بل إن الفيلم بتجريده من عنصر الدراما محدود الأثر والتصوير في بيئة عطش حقيقية، فلن يتعدى كونه فيلما تسجيليا وفي ذلك الكثير مما يقال في هذا الجانب. يعد هذا الفيلم مرحلة مهمة في مسيرة المخرج محمد شكري جميل، وكان من أكثر أعماله التي حظيت باهتمام متواصل. من جانب آخر، تم تكريس أغلب المشاهد الفيلمية للعمل اليومي الذي يقوم به هاشم وأبوه في حفر البئر، وقد أخذ ذلك العمل مساحة واسعة من الزمن الفيلمي، يوميات مكررة مصحوبة بيأس شبه تام عمّقه الوصول إلى قعر البئر بعد جهد جهيد، ولكن الحصيلة كانت ماء مالحا أو مرا مما يدفع الأب والابن إلى العودة للحفر من جديد على أمل الوصول إلى الماء العذب.
ولو حصرنا مساحة تلك المهمة اليومية المكررة لوجدنا أنها شكلت الأرضية التعبيرية للفيلم والشغل الشاغل للشخصيات، وهو ما تم تطويره في بعض مشاهد الحلم والهلوسة والشخصيات تدور وتصرخ “ماء.. ماء” وهو حل إخراجي مميز ومقنع. لا شك أن الطابع الحكائي وما هو مروي في هذا الفيلم لن يحيلنا إلى الكثير مما ننشده دراميا، وأما قياسا لمرحلته كما ذكرنا في مدخل المقال وإحالته إلى النمط الواقعي المألوف والمتداول فإنه يشكل علامة فارقة، إذ حاول المخرج وفريقه الخروج عن نمط الملامسة السطحية للأحداث والشخصيات واستخراج معطيات درامية جوهرية أكثر أهمية على ما ساد من أفلام سبقته. وبسبب ذلك التدفق الواقعي التسجيلي الذي طور الواقعية فعليا في الفيلم العراقي ولكونه إنتاجا حكوميا، فقد تم الاحتفاء بالفيلم جماهيريا، وكان يعرض في مطلع السبعينات متنقلا بين صالات العرض السينمائي البغدادية التي كانت مزدهرة بجمهورها آنذاك. ورافقت ذلك مشاركة الفيلم في مهرجانات دولية منها مهرجان موسكو وطشقند، ومعلوم أن الفيلم حظي بتكريم خاص ونال جائزة مهرجان طشقند، حسب أرشيف المؤرخ مهدي عباس، بينما يصرّ المخرج محمد شكري جميل ومدير إنتاج الفيلم ضياء البياتي، وهما حيّان يرزقان، على أن الجائزة جاءت من مهرجان موسكو في إطار سجال طريف مع مؤرخ السينما العراقية مهدي عباس الذي يخالفهما الرأي.