في ضوء استهداف معسكرات الميليشيات.. من سيفجر المراقد الشيعية في العراق؟
آخر تحديث:
بقلم الدكتور: رافع الفلاحي
مع نهاية عام ٢٠٠٥ وبداية عام ٢٠٠٦، كان واضحًا للجميع أن فصائل المقاومة العراقية قد فرضت نفسها بقوة على ساحة المواجهة، وصارت الرقم الأصعب الذي لا تستوي به أبدًا معادلة المشروع الاحتلالي الأمريكي للعراق. وإزاء فشل الولايات المتحدة الأمريكية في مواجهة المقاومة العراقية وتعاظم الخسائر الأمريكية (بشريًا وماديًا)؛ ارتفعت كلفة الاحتلال إلى أرقام ومستويات يصعب معها على الإدارة الأمريكية تحمل نتائجها أو الإعلان عنها على مستوى الداخل الأمريكي، خشية من ردود أفعال شعبية أمريكية تؤدي بالتأكيد إلى تكوين رأي عام رافض بقوة للحرب ضد العراق واحتلاله، ومطالب بإنهاء هذه المهمة بأسرع ما يمكن، وبما يعيد إلى الذاكرة الأمريكية صور تجربة الرفض الشعبي العارم للحرب الأمريكية في فيتنام، وبما يسقط أحد أهم أهداف غزو العراق المتمثلة في محاولة دفن الهزيمة الأمريكية في فيتنام وشطب تاريخ تلك التجربة البائسة التي كلفت أمريكا خسائر بشرية ومادية هائلة شكلت جرحًا عميقًا في حياة الأمريكيين ودولتهم التي تدعي أنها الأقوى والأفضل.
وإزاء ذلك الحال، وفشل الطرف الثاني في احتلال العراق (إيران) في اختراق فصائل المقاومة أو سحبها لمعارك جانبية واستثمار أفعالها لصالح المشروع الإيراني في العراق؛ كان لابد أن تسعى طهران لطرح حل بديل يؤكد لواشنطن أهلية إيران وقدرتها الفائقة على خدمة المشروع الاحتلالي الأمريكي، وبما يعزز ثقة أمريكا بأن إيران جديرة أن تكون رديفًا لها في العراق خلال تلك المرحلة، ومن ثم يمكن أن تكون بديلًا لها إذا ما ظهر ما يستوجب ذلك في مرحلة لاحقة، وبخاصة أن قوى الاحتلال (الأمريكي – الإيراني) لمست بدايات قوية وواضحة لتشكل رأي عام عراقي مؤيد للمقاومة العراقية وتطور ذلك الحال إلى ما سيؤدي حتمًا إلى التبني الشعبي العراقي لتلك المقاومة كخيار أول وأساسي وربما كخيار وحيد (مثلما هو حقًا) لإنهاء الحال الشاذ الذي صار إليه العراق بسبب الاحتلال، وإنقاذ العراقيين من حال التشتت والفوضى والخراب الذي عم كل المستويات.
إن هذه الصورة بتفاصيلها المعقدة والتباساتها، كانت بالتأكيد على طاولة الدراسة والتشريح في دوائر الاستخبارات الأمريكية والإيرانية، فاجترح العقل الإيراني (الماكر) قرارًا يقضي بضرورة القيام بعمل كبير يؤجج الفوضى ويضيع بوصلة الاتجاه على الكثير من العراقيين ويخلط الأوراق، فكان التفجير المدبر لقبتي الإمامين العسكريين بسامراء في شهر شباط/فبراير عام ٢٠٠٦، إشارة متفق عليها مسبقًا بين إيران وميليشياتها في العراق لبدء عمليات واسعة من القتل والسحل والحرق والتدمير لبيوت ومساجد، تحت لافتة الثأر بشعارات طائفية تتخذ من (فتاوى) لمراجع تدعي أنها دينية تمنح القتلة والمخربين والسراق (صكوكًا) بالبراءة مما يفعلون، وهم يجزون الرقاب ويحرقون الأجساد والمساجد والبيوت هاتفين زورًا: (لبيك يا حسين)، حتى صارت شوارع بغداد والعديد من مدن العراق مملوءة ببرك الدم والجثث المتفحمة والمشوّهة لأشخاص كل ذنبهم أنهم من (أهل العراق) وأنهم من (السُنّة) المتهمين زورًا بالتفجير، ولم تمض سوى سنوات قليلة حتى أعلن رئيس قيادة الأركان المشتركة الأمريكية الأسبق في العراق الجنرال (جورج كيسي) حقيقة أن من قام بتفجير قبة المرقدين العسكريين بسامراء في شهر شباط/فبراير عام ٢٠٠٦ هي إيران.. فيما كانت خطة أمريكية أخرى تنفذ بإشراف قائد قوات الاحتلال الأمريكي (ديفيد بتريوس) تستهدف المقاومة العراقية (أيضًا) عنوانها: (الصحوات)، فتناغمت الخطتان الإيرانية والأمريكية وتخادمت لإنقاذ مشروع الاحتلال، الذي كان الرئيس الأمريكي بوش الابن يراه (آنذاك) قد أشرف على السقوط معبرًا عن ذلك بالقول: (كنت أحاول تأخير الإعلان عن خسارتنا للحرب).
ونعيد التذكير اليوم بما تقدم ذكره، بعد نحو ثلاثة عشر عامًا؛ على تفجير سامراء وظهور الصحوات إثره، وبعد ستة عشر عامًا من الاحتلال (الأمريكي-الإيراني) للعراق الذي يعيش اليوم تحت سلطة الميليشيات والعصابات والأسلحة الكاتمة والصوتية، وفي ظل انفلات أمني وانتشار للسلاح وأسواقه التي تنافس أسواق السمك والخضروات، وغياب الدولة وتفشي الفساد والخراب وكل السياسات الطائفية وكل التهجير والتهميش والقتل والتعذيب والتغييب، وفي ظل الادعاءات الباطلة والوعود الكاذبة و(الفتاوى) المضللة والشعارات الزائفة عن بناء الإنسان والدولة وفقًا (لمنهج الحسين)، وعن الذل الذي لن يقبلوا به مرددين: (هيهات منا الذلة)، فيما صار عدد العراقيين الفقراء الذين يعيشون على مكبّات النفايات أكثر من (عشرة ملايين) عراقي يشكلون نحو ثلث سكان العراق، وصار عدد الأميين أكثر من (ثمانية ملايين) عراقي في بلد كان منارة للثقافة والعلوم وكان خاليًا من الأمية بشهادة الأمم المتحدة، وصار عدد المدمنين على المخدرات أكثر من (ثلاثة ملايين) في بلد كان على رأس البلدان الخالية من المخدرات، وصار فيه عدد العاطلين عن العمل أكثر من (ستة ملايين) يضاف لهم نحو (أربعة ملايين) آخرين ينطبق عليهم بجدارة وصف: (البطالة المقنعة) كون الموظف منهم لا يعمل أكثر من (عشر دقائق) يوميًا من ساعات العمل البالغة (ثماني ساعات)، وصار المواطن في بلد الثروات والخير العميم يعيش بلا كهرباء ولا ماء صالح للشرب ولا مدارس ولا جامعات ولا مستشفيات ولا مراكز صحية تليق به ولا أمن يحتمي به، وصار… وصار، فهل بعد ذلك ما هو أقسى من هذا الذل؟؟
نذكر بكل ذلك وقد شهدت في هذه الفترة معسكرات لميليشيات ما يسمى بالحشد الشعبي، استهدافًا بالقصف من قبل طائرات قالوا عنها مجهولة وهي معلومة جدًا، كونها تعود للكيان الصهيوني الذي ألمح إلى أن طائراته هي من استهدفت معسكرات الميليشيات بالقصف كونها تحتوي على أسلحة وصواريخ إيرانية، يجدها الصهاينة أنها تشكل خطرًا على أمنهم القومي.
المثير في كل ذلك أن حكومة بغداد الحالية برئاسة عادل عبد المهدي، لم تصدر أي تعليق ولم تتخذ أي إجراء مناسب إزاء ما نال أربعة من معسكرات الميليشيات التابعة لما يسمى بالحشد الشعبي، الذي تقول الحكومة إنه بإمرتها وأنه طوع أمرها وهو جزء من قواتها المسلحة والأمنية.. فهل يجوز أن تتعرض القوات العسكرية والأمنية في أي بلد في العالم إلى القصف والتدمير ولا يصدر عن حكومة ذلك البلد أي رد فعل على تلك الحوادث؟؟ وهل يمكن لشعب ذلك البلد أن يسكت عن هكذا أفعال إلا إذا كان المتضرر هو موضع سخط ونقمة وكان منبوذًا ومستهجنًا من الشعب؟
إن حكاية القصف الذي تتعرض له معسكرات الميليشيات في العراق التابعة لإيران، تبدو أكثر من مثيرة ومحفزة للعديد من الأسئلة، خاصة بعد أن أصدر نائب هيئة ما يسمى بالحشد الشعبي (أبو مهدي المهندس) بيانًا اتهم فيه (إسرائيل) بتنفيذ القصف وحمّل فيه أمريكا مسؤولية ما حدث متوعدًا بالرد والثأر، فانبرى له رئيس هيئة الحشد الشعبي (فالح الفياض) الذي هو من المفروض أن يكون رئيسًا لأبو مهدي المهندس، والمسؤول الأول عن هذه الميليشيات، ليقول إن بيان (أبو مهدي المهندس) لا يمثل (الحشد)! وإن الاتهامات التي وردت في بيانه ليست دقيقة وغير مسؤولة ولا يجوز تبنيها.. فكان ذلك بحق حدث كاشف لعمق التشققات والاختلافات داخل بيوت الميليشيات الشيعية الموالية لإيران، خاصة بعد أن قام موقع الحشد الشعبي بنشر بيان (أبو مهدي المهندس) وعدم قيامه بنشر بيان (فالح الفياض) الأمر الذي جعل البعض يتساءل من هو القائد الفعلي لميليشيات الحشد؟ فضلًا عن كشفه لعمق خوار حكومة عادل عبد المهدي وكذب الادعاء بسيطرتها على هذه الميليشيات.
وإذا كان كل ذلك مستغربًا عند البعض، فإن المثير والمدهش عند الجميع حقًا هو التفكير بالخطوة التالية لما حصل، والذي تَبيّن من خلال تصريحات وبيانات العديد من الشخصيات القيادية الشيعية والميليشيات التابعة لإيران، والذي يتلخص في خشيتهم من قيام (إسرائيل) باستهداف المراقد الشيعية، فمن بين من أعلنوا خشيتهم من ذلك القيادي في التيار الصدري (سابقًا) والذي كان يشغل منصب نائب رئيس الوزراء في حكومة حيدر العبادي (بهاء الأعرجي)، الذي أعرب عن قلقه الشديد من هذا الوضع بالقول: “أخشى على مراقدنا الدينية من ضربات إسرائيل” فيما قال بيان لكتائب حزب الله العراقي: “ليس بعيدًا أن يستهدف الأمريكان والصهاينة المراقد المقدسة ورموزًا وطنية”، الأمر الذي يعيدنا إلى الأسباب التي جعلتنا نستذكر تفجير قبة المرقدين العسكريين بسامراء في شهر شباط/فبراير عام ٢٠٠٦، فالحديث عن هذه الخشية يأتي في ظل سخط شعبي (شيعي بنحو خاص) يزداد اتساعه وتعمقه خاصة في الأوساط الشيعية العراقية (ولاسيما في جنوب العراق حيث مدن البصرة والناصرية والعمارة وغيرها) على الميليشيات التي تحملها مسؤولية زج العراق في (صراع التنافس الأمريكي الإيراني) وجعل العراقيين وقودًا له، إضافة إلى معرفة العراقيين بأن هذه الميليشيات قد استحوذت على كل شيء وهي تتعامل مع كل المواطنين العراقيين ومع كل السلطات العراقية على أنها فوق كل القوانين والسلطات والأعراف، وهي فعليًا تمتلك القدرات في الحصول على كل ما تريد من دون أن تستطيع أي قوة أو سلطة أخرى منعه عنها، وهي التي توّلت قمع التظاهرات التي خرجت للمطالبة بتوفير الخدمات والوظائف واعتقال المتظاهرين وتصفية وتغييب العديد من الناشطين فيها، فضلًا عن الكره والسخط الذي يستحوذ على نفوس باقي العراقيين في بغداد ومدن غرب العراق وشرقه وشماله الذين نالوا وينالون الكثير من الأعمال الإجرامية الطائفية لهذه الميليشيات الإيرانية.
من هنا، فإن التصريحات بالخشية على المراقد الشيعية من القصف (الإسرائيلي)، ما هي إلا محاولة مكشوفة للتمهيد والتسويق لخطة (فعلية) سوف يتم خلالها استهداف مرقد من المراقد الشيعية أو ربما أكثر من مرقد، من قبل الميليشيات الشيعية (الإيرانية) والادعاء أن هذه المراقد قد تعرضت للقصف (الإسرائيلي) أو الأمريكي، وبذلك يمكن تحقيق جملة من الأغراض تتلخص في:
١. محاولة إحداث شرخ عميق في مستوى الرأي العام الساخط على (الحشد) الميليشيات وإيران على الأقل في المناطق الجنوبية الشيعية من العراق.
٢. إعادة تشكيل رأي عام متعاطف مع (الحشد) الميليشيات ومؤيد لها.
٣. تأمين مخرج مناسب من خلال إثارة الفوضى للتنصل عن شعارات هذه الميليشيات بالقدرة على مواجهة الصهاينة والثأر منهم.
٤. محاولة هذه الميليشيات لكسب (وقت إضافي) لترتيب أوضاعها الداخلية في ظل الانشقاقات التي ظهرت واضحة في صفوفها.
٥. تأمين قدر معين (مطلوب) إيرانيًا من ولاء للساحة العراقية والقبول بلعب أدوار تخدم المشروع الإيراني في التنافس الاستراتيجي والتكتيكي الجاري اليوم على الساحة العراقية بين طهران وواشنطن.
٦. الإيحاء (تضليلًا) بوجود صراع أيديولوجي بين إيران والكيان الصهيوني وليس كما هو في الواقع مجرد تنافس بين قوى تتلاقى بالأهداف لكن كل واحد منها (طهران وتل أبيب) يريد فرض نفسه على أنه القوة رقم (١) في المنطقة.
وبالمحصلة؛ فإن استهداف أحد (المراقد الشيعية) من قبل (الميليشيات الشيعية)، يبدو الآن أكثر ورودًا، وإن حصوله ليس مستغربًا ولا بعيدًا؛ بل متوقعًا جدًا، ولنا في تفجير قبة مرقدي الإمامين العسكريين بسامراء في شهر شباط/فبراير عام ٢٠٠٦، دليلًا حاضرًا وأنموذجًا قابل للتطبيق أكثر من مرة.. فمن سيقرع الجرس مثلما يقول المثل الغربي، وأي من المراقد الشيعية سيُفجّر؟