جاء قرار تحطيم الدولة العراقية الذي اتخذه الحاكم المدني الأميركي بول بريمر منسجما مع مبادئ وتطلعات الأحزاب الطائفية الشيعية التي وقفت مع الاحتلال. ولم تكن جماعة الإخوان المسلمين بنسختها العراقية أفضل في تعاملها مع ذلك القرار الذي وضع حدا لجهود مضنية بذلتها أجيال من العراقيين في بناء تلك الدولة الحديثة. ذلك ما كان الأميركان على دراية به وهو ما يخدم مشروعهم القاضي بتدمير العراق حاضرا ومستقبلا. فعراق من غير دولة لن تقوم له قائمة ولن يستعيد مكانته على خارطتي الشرق الأوسط والعالم العربي، ناهيك عن صورته في العالم.
قد يظن البعض خطأً أن الأمر التبس علي حزبيي الإسلام السياسي بحيث تحوّل عداؤهم للنظام السياسي إلى عداء للدولة. ذلك ليس صحيحا. فالدولة باعتبارها كيانا مؤسساتيا كانت هي المقصودة كونها تتعارض مع مبدأ الحاكمية الذي أعلى الإخواني سيد قطب من شأنه وصار جزءا من المنطلقات النظرية للإخوان كما لكل الأحزاب الدينية التابعة لإيران وقبلها المرجعيات الدينية الإيرانية. وإذا ما اعتبرنا ذلك المبدأ نوعا من النفاق السياسي الذي يهدف إلى إخفاء الواقع فإن العداء للدولة يعود في حقيقته إلى أن المؤسسة الدينية تزدهر في ظل ضعف الدولة، أما حين تكون الدولة قوية فإنها تنزوي جانبا. ذلك ما حدث في مختلف العصور التي مرّت بها الدولة العربية الإسلامية.
التقت المصلحة الأميركية بمبادئ جماعات الإسلام السياسي التي وجدت في الغزو الأميركي باباً تطل من خلاله على مستقبل ستكون فيه هي سيدة الموقف في النظام وفي الفوضى. وليس المقصود بالنظام هنا العودة إلى مبادئ العمل المؤسساتي بل العمل السياسي في أجواء مستقرة نسبيا. وهو ما عاشه العراق بعد سنوات طويلة من الاضطراب الذي لا تزال معادلاته ممكنة الاستعادة في أيّ لحظة. يمكن لمقتدى الصدر على سبيل المثال أن يقلب الطاولة على الجميع حين يريد ولو كانت هناك دولة لما استطاع القيام بذلك.
منذ أكثر من عشرين سنة والعراق من غير دولة. وهو حدث غير مسبوق في التاريخ السياسي الحديث في العراق. لقد حافظ الانقلابيون في 1958 و1963 و1968 على الدولة التي كانت قائمة منذ عشرينات القرن العشرين. كانت تلك الدولة هي الحاضنة التي استطاعوا من خلالها تنفيذ مشاريعهم في الهدم والبناء على حد سواء. لم يؤثّر التقاتل الحزبي على الدولة ولم يمسّها بضرر. ظلت الدولة قائمة بعيدا عن المعدلات السياسية التي تتحكم بشكل الحكم. أما وقد سقطت الدولة فقد حل النظام السياسي محلّها. ولأنه كيان يتألف من مواد سائلة فلم يعد القانون قادرا على استيعاب تحولاته والتحكم بمساراته.
حين اختفت الدولة اختفى العراق.
تلك هي المعادلة التي تحلم بالوصول إليها كل تنظيمات الإسلام السياسي. ولو قُدر للإخوان المسلمين أن يستمروا في حكم مصر لكانت الدولة المصرية التي حافظ عليها النظام الجمهوري قد تم تحطيمها ولالتحقت مصر بالعراق. ولكن حركة النهضة نجحت في تدمير دولة بورقيبة في تونس. فعن طريق التخلص من دولة بن علي تم الانقضاض على الدولة المدنية التي أقامها الحبيب بن بورقيبة وحافظ عليها زين العابدين بن علي. كلما حاول الرئيس قيس سعيد العودة بتونس إلى مسار الدولة يصطدم بمظاهر الفوضى التي صار الكثيرون في غياب الدولة يعتبرونها نوعا من الديمقراطية. وما لم تكن هناك دولة فلا وجود لميزان.
كان من الممكن أن تضيع مصر لو أن الإخوان استمروا في مشروع دولتهم. أما في تونس وقد تمكنت منها حركة النهضة فلم يكن من الصعب أن تضيع الدولة. لقد تم تذويبها في سياق قوانين أفرطت في تمجيد الانتقام منها بحجة المراجعة التاريخية. ما جرى يكشف عن أنه كانت هناك رغبة لتذويب دولة بورقيبة والانتهاء منها. في العراق أنهى المحتل الأميركي الدولة باعتبارها دولة صدام حسين. ذلك ما فعلته حركة النهضة حين اعتبرت الدولة التونسية دولة بن علي. المفارقة أن قيس سعيد رجل قانون وهو لا يجرؤ على مكاشفة شعبه بحقيقة أن دولتهم ماتت.الفجيعة واحدة في كل البلدان التي تعرضت لهزات اقتلعت الدولة فيها من أساسها. فلا اليمن ولا ليبيا ولا العراق ولا تونس ستتمكن من استعادة الحياة الطبيعية ما لم تبن فيها دولة جديدة على أنقاض الدولة التي هُدمت. ذلك ما يستغرق زمنا طويلا. هذا إذا توفرت الإرادة الوطنية المستقلة والحرة.