الظاهرة السياسية في العراق تخالف في أصولها الفكرية وتفصيلاتها السياسية اليومية بعد عام 2003 ما ذكره أغلب علماء السياسة وفلاسفتها منذ عصر النهضة الأوروبية وإلى حد اليوم. أهم فعالية فكرية غريبة تُخالِف بها التاريخ الأوروبي القائل بأن عصر السياسة جاء بديلاً عن عصر الدين، ليتم في هذا البلد مزج الدين بالسياسة بطريقة مثيرة للاستغراب وبمستوى لا يليق بالأعراف السياسية السائدة.على مستوى الواقع السياسي الظاهرة الأكثر جاذبية هي اقتحام الشاب الشيعي مقتدى الصدر معترك السياسة، في مقاومته للاحتلال العسكري متفرداً عن بقية قادة الشيعة في العراق، الذين رحبوا بذلك الاحتلال الهمجي وساندوا قتله للمقاومين، وهو ما لم يقاومه أو يفتي بمقاومته أكبر مرجع شيعي في النجف.
الاقتحام الدراماتيكي الصدري للعملية السياسية، وهو المتميز برفضه الاحتلال الأميركي على قاعدة شعبية واسعة، أزعج القيادات السياسية الشيعية التي اعتقدت غباءً أنها ليست في حاجة إلى جمهور طالما حظيت بدعم وتأييد لامحدودين من الأميركان ونظام ولي الفقيه في طهران.الصدر اعتمد خاصية الجمهور محوراً لفعالياته التي غابت عند الآخرين، رغم ما بذلوه لاحقاً ويبذلونه من إغراءات مادية استطاعوا من خلالها كسب القلة من المحتاجين، فماكينة الحياة لأيّ سياسي هي الجمهور. استطاع الصدر اللعب بمهارة بجمهوره الذي نشأ ونما وكبر على تفاعل ما بين العاطفة المذهبية الشيعية ومطالب الحاجات الإنسانية اليومية. أصبح قادراً على تحريكه متى أراد في انقياد يبدو غريباً بعض الأحيان، إلى درجة تعطيله آلية المكاسب لقياداته وكوادره.
استحضرني هذا الوضع الصدري ما كتبه الفيلسوف الفرنسي العملاق غوستاف لوبون (1841 – 1935) في كتابه “سيكولوجية الجماهير” الذي صدر عام 1895 وترجم إلى العربية، ومازال مرجعاً مهماً للسياسيين والكتاب في تفسير أهم رابطة نفسية ما بين القائد والجمهور.
يرى لوبون أن للجماهير خصائص تميزها عن الأفراد، حيث تذوب الشخصية الواعية للأفراد وتوجيه المشاعر والأفكار في اتجاه واحد لجماهير لا تعرف الفرق بين الخطأ والصواب، لا يستطيع أحد الوقوف في وجهها. الجماهير تتصف بالتفاني والإخلاص والتضحية والتبعية لمن يقودها. لا يحركها الخطاب العقلاني ولا يؤثر فيها لأنها تتحرك بالعاطفة.
مقتدى الصدر رغم خصوصية حالته، وعدم سيطرته على سلطة الحكم التي حضرت بين يديه، بمناسبات عدة، ليس الأول في التاريخ السياسي من اعتمد على تجييش بسطاء الناس؛ التاريخ يتحدث عن استثمار رجال دولة كبار عبر التاريخ للخيال الشعبي لتثبيت حكمهم. قادة تمكنوا من تجييش الشعوب على غرار هتلر وموسوليني وستالين وماوتسي تونغ وغاندي وعبدالناصر وصدام حسين. نعم، التاريخ السياسي للجماهير يقول إن أدوارها أحياناً يمكن أن تكون سلبية عبر دعمها لقوى استبدادية أو أيديولوجيات فاشية، لكنها في الغالب تقدم التضحيات العظيمة في سبيل قضايا وطنية تتعلق بالتحرير والسيادة الوطنية.
مؤسسو العقائد الدينية أو السياسية أدركوا أهمية فرض عواطف التعصب الديني على الجماهير وسيلة إيمانية تدفع بمعتنقيها إلى التضحية غير المحدودة في سبيلها. من هنا تبدو إحدى السمات العامة للعقائد الدينية وغير الدينية، أن شرط ترسّخها لدى معتنقيها مرهون باكتسابها حلة دينية ذات توجه إيماني مطلق لا تخضع للنقاش حول مدى صحتها، رغم أن التاريخ السياسي الأوروبي الحديث أبعد الدين عن السياسة.
لا شك أن الصدر، رغم ما يشاع عن عفويته، مُدرك لما يقوم به في قيادته السيكولوجية للجمهور المسحوق داخل الطائفية الشيعية. هذا لا يعني أنه نجح في جميع المناسبات. لكن السؤال المهم: هل السيرة السياسية المتغيّرة غير المستقرة لمواقف الصدر تحافظ على حالة الانقياد الأعمى لجمهوره الذي تخطى في بعض شعارات ومواقف طائفته الخاصة إلى خارجها ليصل الجمهور العراقي المُحبَط والمظلوم؟ أم إن تغيّر المواقف من الاقتحام إلى التراجع والانكفاء يؤدي إلى تخلخل تلك العلاقة؟
قانون قيادة الجمهور فيه أحكام صارمة، لا شك أن الصدر يدركها أو هناك مستشارون يضعونها أمامه، من بينها: أن القائد السياسي في حاجة إلى استمرار ما تسمى حالة “سخونة العاطفة الجمعية”، برودة الظرف المحيط تجعل الفرد المندمج مع القيادة يعيش حالة تفكير نفسي عقلاني: لماذا وكيف وما المستقبل؟
حيثيات العملية السياسية الراهنة في العراق أصبحت تشكل خطراً جدياً يواجه قيادة الصدر، هناك قادة سياسيون تحمل هويات أحزابهم الحالة المُركَبة بين السياسي والديني، رغم عدم ارتدائهم العمامة مثل نوري المالكي، وآخرون يرتدونها لدى آبائهم تاريخ مُلتبس مع الصدر الوالد، تنعكس بشكل أو بآخر كمخاطر شاخصة أمام قيادته الحالية.
بعضهم اشتغل بالتعاون مع المحتل الأميركي على إزاحة الصدر من الساحة السياسية العراقية، وما زالوا يتعاونون مع طهران القلقة من عدم ضمان ولائه لهم مستقبلا. داخل العراق، السياسيون الشيعة يرحّبون بفكرة تحويله إلى طالب متابع لدراسته الحوزوية في قم، وليس النجف. مع الافتراض أنه صاحب منهج عروبي في التشيّع يجعل النجف العربية مركزاً للتشيع، لكن الإيرانيين هيمنوا على ملف التشيّع وإدارته في النجف وقم منذ عقود، لا يسمحون لعربي بفرصة تزعّم الحوزة رغم أنها في النجف. دائماً ما تمّت وتتم تنحيتهم بالقتل. هذا ما حصل لمحمد صادق الصدر والخوئي.
صراعات متعددة الجوانب حول المرجعية الشيعية ودور طهران في التصفيات العقائدية والسياسية والجسدية التي طالت قياداتها. أهم حدث هو انقلاب مرجع مقتدى الصدر الإيراني كاظم الحائري المقيم في مدينة قم على مُقلّده مقتدى الصدر، وتشكيكه العلني في قدرته على مسلكية الحوزة منذرا بإضعاف الجانب المرجعي الشيعي وغيابه في قيادته بحجة عدم تلبيته لأحكام مراتبها، فتصبح قيادته سياسية صرفة، هذا يريح خصومه المعممين الآخرين في العملية السياسية مثل عمار الحكيم.
أخطر ما يواجهه الصدر هو غياب ثنائية رجل الدين والسياسي، صحيح أنه دائماً ما يجعل من تراثه العائلي الإيجابي مكسباً مهماً لجمهوره، لكنه يبقى مكسباً تاريخياً عاطفياً مؤقتاً سرعان ما تنهار جدرانه الثلجية أمام عواصف العملية السياسية ومطالب الجمهور المتعلقة بالحياة.
ما زال الصدر يقاوم مصيره في أن يصبح واحداً من السياسيين التقليديين، لا يختلف عن زملائه في تلك العملية سوى بشعاراته الوطنية العراقية وهي صفة مرحلية لصالحه.إعلانات الصدر في نوبات مقاطعته العملية السياسية وتراكم اعتكافاته أكثر من عشر مرات، وعوداته المفاجئة، لن تخدم قيادته لجمهوره، بل تُسعد خصومه السياسيين الذين سلمّهم 73 مقعداً نيابياً بلا ثمن حصلوا من خلالها على الأغلبية النيابية وتحكّموا مجدداً في سياسة التفّرد والاستبداد. يقال إن محمد كوثراني القيادي في حزب الله والمعتمد من خامنئي قد لعب ويلعب دوراً مؤثراً أكثر مما يقوم به إسماعيل قاآني في إذعان الصدر وتصديع قيادته الشعبية التي هددت المشروع الإيراني في العراق.
يبدو أن هناك عمليات استدراج مرحلية أبعدت وستبعد الصدر عن قيادة مشروع التغيير السياسي الذي كان يصرّح به، وتحويله إلى قيادي سياسي مندمج في العملية السياسية، من بينها إعطاؤه فرصا هامشية في الانتخابات في أكتوبر المقبل لمجالس المحافظات سيئة الصيت، قد يقبلها الصدر ويصوّرها أمام جمهوره المُحبَط نصراً جديداً.
الأهم والمتوقع ما ستقوم به عبقرية المكر والمخادعة الخامنئية بتنفيذ حلول مُدمّرة لمقتدى الصدر تستهدف عزله عن جمهوره، وهي مهمة خطيرة، من خلال تكليف وسطاء قادرين على عرض تسويات مثل كوثراني. أو قد يتم استدعاؤه من قبل خامنئي نفسه، والصدر لن يرفض مثل تلك الزيارة. سبق له أن حضر بين يدي خامنئي. كما أنه القيادي الشيعي العراقي الوحيد الذي سبق أن حضر تأبين الراحل الخميني في طهران عام 1989. الهدف الحالي إتمام مشروع عزله نهائياً عن الجمهور الشيعي العراقي بعد أن تم إنهاء مشروعه السياسي.
هذه التداعيات في قيادة الصدر قد تقود إلى أن يندمج جمهوره بالحالة الجماعية المؤلمة التي يعيشها العراقيون جميعاً تجاه سلطة الأحزاب الفاسدة الاستبدادية، حيث يسود الكذب، وخداع الجماهير والازدراء بها وحرمانها من حقوقها الأساسية في الحياة.تجارب الشعوب في العالم تقول إن تزييف الوعي قد يستمر لفترة قصيرة إلى أن تكتشف الجماهير أنها قد غُرّر بها أو خُدعت، حينئذ يتغير مسارها وتنقض بلا رحمة على من غرّروا بها.
هل يستطيع الصدر إعادة مستوى الهبّة الجماهيرية حوله لعقدين مضيا من الزمن؟ من الصعب إعادة الماضي، خصوم الصدر في العملية السياسية كُثُرٌ يسعون إلى إخراجه من الساحة. كذلك الظروف السياسية الداخلية والخارجية والتحولات المقبلة تفرض وقائع جديدة من نمط آخر، تقتضي إنهاء حاسما للقوى الميليشياوية الموالية لطهران والتي عبثت بأرواح العراقيين ونهبت أرزاقهم، ومساعدة العراقيين على إنهاء جميع رموز الفساد ومنظوماتهم الحاكمة واستبدالهم ببديل ديمقراطي حقيقي.