مع الأقتراب من الأعلان النهائي لنتائج الأنتخابات البرلمانية العراقية التي اجريت في العاشر من اكتوبر 2021 والتي افرزت بشكل عام انحسار شديد للتيارات الأسلامية المسلحة والمليشيات الحزبية المسلحة ذات الطابع الأسلاموي, كما افرزت نتائج الأنتخابات في
تحسن ملحوظ تجسد في صعود نسبي لقوى الحراك التشريني الى جانب القوى المستقلة, وبعيدا عن نسبة المشاركة المتدنية في الانتخابات فأن مؤشراتها الأولية تؤكد ان هناك تغير نسبي قادم في موازين القوى البرلمانية والسياسية لصالح التيار المدني وقد يؤسس لحالة
جديدة في العراق يجسدها بداية الخوض في معترك التأسيس لدولة المواطنة والأبتعاد عن منطق اللادولة والسلاح المليشياوي الذي تعبر عنه قوى اللادولة المافوية التي اغرقت العراق منذ 2003 في بحر من الصراعات الطائفية والأثنية الذي صادر الدولة وارتهنها لأجندته. الخارجية والداخلية والتي تستهدف استنزاف الدولة ومواردها والأفساد فيها وفرض سلطة المليشيات بعيدا عن سلطة القانون.
كانت خسارة قوى اللادولة في الانتخابات مؤشرا ايجابيا لتفسير المزاج الشعبي العراقي العام في بداية توديعه لقوى احكمت السيطرة عليه خلال 18 عاما عابثة في مقدرات العراق وامكانياته المادية والبشرية ومستندة الى مختلف المرجعيات الدينية في الخفاء والعلن لأضفاء
القدسية المشوهة على افعالها المشينة مستغلة الفاقة والحرمان الذي عاناه شعبنا من دكتاتورية النظام السابق ومفتعلة سلوك المظلومية الطائفية لتخريب الدولة والوطن واحلال العقاب بأبناء “الطائفة المظلومة” قبل غيرهم وحرمانهم من مستلزمات العيش الكريم في ابسط
مستوياته الأنسانية في الخدمات العامة من صحة وتعليم وماء وكهرباء وضمانات الحد الأدنى الأجتماعي للحد من التسول والضياع.
مع هذا التحسن الملحوظ في ما افرزته صناديق الأقتراع في ابعاد القوى الطائفية المسلحة استعدت قوى اللادولة منذ الاعلان الاولي للنتائج عن اشهار سيف الأعتراض الصدئ على نتائج الانتخابات ملوحة في التهديد والوعيد في رفض النتائج واعتبارها مزورة بالضد من
كل التصريحات الأممية والدولية والداخلية بتأكيدها بنزاهة الانتخابات وعدالتها النسبية, وبدأت تنشط بكل قدراتها للحيلولة دون القبول بنتائج الانتخابات وعدم تقبل خسارتهم للأنتخابات بأعتبارها سنة حميدة في الديمقراطية, فهناك خاسر وهناك رابح وهناك منطق تبادل
السلطة سلميا على خلفية نتائج الانتخابات, تلك القوى التي لا تؤمن بالخسارة المؤقتة بل تؤمن بالربح المطلق بأختلاف دورة الزمن, أنها قوى لا تؤمن بالديمقراطية ولا بالتدوال السلمي للسلطة, ووجدت في الديمقراطية مجرد صناديق اقتراع اذا لم يفوزون بها يحرقوها كي
يفوزوا, تلك هي لعبة الأسلامويين مع صناديق الأقتراع, انها فرصتهم الوحيدة في التجييش وممارسة الدجل المقدس لفرض ارادتهم على مستقبل البلاد.
قوى الأسلام السياسي أسوة بكل القوى التي يفترض أن تقصى من المشهد السياسي بقوة القوانين السائدة ” من عدم السماح للفصائل المسلحة والاحزاب الميليشياوية في الاشتراك في الانتخابات وفي العملية السياسية بصورة عامة, واقصاء كل القوى الغير مؤمنة بالتداول
السلمي للسلطة, ثم التأكد من مصادر تمويلهم ونزاهة المال الذي يمتلكونه, للأسف ان تلك القوى اليوم تمتلك كل مقومات العبث في النظام وفي العملية الديمقراطية, فهي من يحيط المنطقة الخضراء بالسلاح والمقاتلين ويفرض طوقا محكما على مساحات واسعة من الحكم,
وهي من يمتلك الفضائيات الصفراء التي تسهم في تشويه الرأي العام وخداعه, وهي من يمتلك الكثير من مراكز الأبحاث ومعهم جوقة من المحللين السياسيين والأستراتيجين المشوهين فكريا وعقليا, وهؤلاء هم من دعاة ومهندسي الكتلة الأكبر بغض النظر عن نتائج
الأنتخابات تقودهم ” دولة القانون ” بزعامة المالكي مهندس الأستثناءات المريضة, فهو مهما بلغت اصوات الفائزين في الانتخابات يبقى هو الفائز الأكبر.
تلك القوى التي ترفض المنظومة “السياسـية” و “القانونيـة” المدنية بأي شكل من الأشكال؛ فهـي تـرى أن مـن واجبها إقامة الدولة الإسلامية المتمثلـة في دولـة الخلافـة، بـدل من الدولـة الوطنية الحديثة القائمة خارج اطار التنوعات الدينية والطائفية والاثنية، وتطبيق الشــريعة
الإسـلامية بدل القانون “الوضعي”، كـما تـرفض المفهـوم المدني للأمـة، وتنـادي بفكرة الأمة المحددة بالعقيدة والطائفة, والتي تحمل في طياتها مزيدا من الصراعات واراقة الدماء لكل المكونات الاخرى وبالتالي تخلق ارضا خصبة لمزيدا من الاقتتال بين مكونات المجتمع الواحد.
وفي ضوء نتائج الأنتخابات البرلمانية فأن التيار الصدري الفائز الاول والمتنوع في تركيبته الداخلية” من دينية بحتة, ودينية بنصف مدنية ومدنية شبه كاملة عليه ان يبتعد عن التحالفات القادمة التي تسلب منه الفوز الانتخابي وان يبتعد التيار الصدري عن الأنفعالات
الآنية التي قد تنقله بين ليلة وضحاها الى المعارضة البرلمانية والتنازل عن استحقاقه الانتخابي جراء ضغوطات الساعين وراء تشكيل الكتلة الاكبر خارج سياق الفوز الانتخابي, وبالتأكيد انها مهمة صعبة امام التيار الصدري كيف يقرر وجهته لأن الطرفان الكردي والسني
والراغبين في ابقاء المحاصصة لا يستطيعوا اتخاذ القرار المناسب في الزمن المناسب ولم تتجرئ تلك القوى حسم وجهتها القادمة وهي ترفع شعار التحالف مع الشيطان من اجل الحصول على المغانم المؤقتة بمبررهم التقليدي ” انهم ينتظرون البيت الشيعي وتحالفاته” كي يحسموا امرهم.
اما رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي” وهو الآن رئيس وزراء تصريف اعمال ” وقد تطول مدة بقائه في المنصب على خلفية المجهول القادم في العملية السياسية كان يفترض عليه ان يتمتع بشجاعة استثنائية لتفويت الفرصة على قوى اللادولة وان يعزز من مكانة
الدولة وحكم القانون وان يكشف عن قتلة المتظاهرين ومرتكبي الاغتيالات السياسية والجهات التي تقف ورائهم دون الاكتفتاء بأضفاء الشخصنة للجرائم المرتكبة واظهار المجرمين بسيناريوهات مبتورة ومضحكة دون الحديث عن المليشيات التي تقف ورائهم, كان بأمكانه ان
يكون شجاعا ومتحديا وغير متساهل مع القتلة كي يمهد الطريق امام قوى الدولة كي تسود المشهد السياسي. ومن تداعيات ضعف رئيس الوزراء اليوم فأن القوى المليشياويه تطالبه بالكشف عن قتلة المتظاهرين وتطلب منه ان يكون شجاعا وجريئا لأنها تعلم انه لا
يستطيع وهي اقوى منه ومتحدية له, رغم ان مصطفى الكاظمي غامر بالعديد من المحاولات للتحرش بالمليشيات ولكنه لم يفلح, حتى تطاولوا على محاولة اغتياله !!.
ورغم ان الكاظمي يتجنب المواجهة المباشرة مع قوى اللادولة والمحسوبة على الدولة في بعض منها فهو يخشى من مواجهة شيعية شيعية لا تحمد عقباها ولكن عليه ان يفهم سنة الصراع بين قوى الدولة واللادولة التي تكلف الكثير ولكنها تقرر مستقبل البلد في التخلص
من العصابات والقوى المعوقة للديمقراطية وعليه ان يبني تحالفات عميقة مع قوى الدولة ويبتعد عن لغة المغازلة والتهديد الناعم الذي يبرئ المجرم مع مرور الزمن ويجعله يستقوي عليه كما فعلوا بمحاولة اغتياله, بل ويعيدوا انتاج سيناريو اغتياله بأنها محاولة مفبركة من
رئيس الوزراء وكذبة منه لتوفير فرص اكبر في حصوله على رئاسة الوزراء للمرة القادمة, بل ويطالبوا بلجان تحقيق لمعرفة ملابسات وفبركة اغتياله, فأي صلافة تتمتع بها تلك المليشيات السائبة خارج سلطة الدولة والقائد العام للقوات المسلحة.
الديمقراطية في العراق تمر بمخاض عسير هذه المرة يفوق ما مرت به في الفترات السابقة ما بعد 2003 حيث ان الحسم اليوم يقرر وجهة البلد القادمة, فأما الاقتناع بالديمقراطية ونتائج الانتخابات هي السبيل الوحيد للتأسيس لنظام ديمقراطي تتمتع فيه القوى الفائزة بحق
تشكيل الحكومة استنادا الى قاعدتها الشعبية, واعتراف القوى الخاسرة بمدى التأييد الشعبي لها, وانطلاقا من نلك القناعة فهناك حكومة اغلبية ومعارضة سياسية يفترض ان تؤدي دورها النبيل في تقويم مسار الحكم, وكما يعرف الجميع فأن البدء في ممارسة ديمقراطية
واضحة المعالم سيجلب المزيد من اعادة انتاج ديمقراطية واضحة المعالم, اما عدا ذلك فأن العودة مجددا الى المجاصصة والتحايل على مفهوم الكتلة الأكبر هو عودة للبلاد الى المربع الأول وبالتالي فأن الديمقراطية في العراق هو كذبة كبرى لا غير !!!.