كيف يمكن الدمج بين المليشيات وبأختلاف ولائياتها مع الجيش والشرظة
آخر تحديث:
بقلم:كرار حيدر الموسوي
لن تقتضي الجهود المبذولة لإعادة بناء المؤسسات الأمنية في الدول التي تعيش مرحلة ما بعد الصراع، القيام بإصلاحات تقنية وتنظيمية وحسب، بل ستتوقف أيضاً على مجموعة من الخطوات والإصلاحات الشاملة ضمن نطاق يتعلق باختلاف الأجيال.
أدّى انهيار سلطة الدولة في جميع أنحاء العالم العربي وانتقالها إلى جهات أمنية فاعلة محلية إلى قلب معايير السيادة والعلاقات المدنية-العسكرية السائدة منذ فترة طويلة. وفي حين أن الجهات الفاعلة الخارجة عن إطار الدولة تُعتبر منذ زمن طويل سمة من سمات النظام العربي، إلا أن مايميّز الصراع المعاصر والدول التي تعيش مرحلة مابعد الصراع، مثل ليبيا وسورية والعراق واليمن هو كثرة الجهات الأمنية شبه الحكومية التي تحظى بدرجات متفاوتة من الدعم من السلطات المركزية الضعيفة أو المتكسِّرة، وكذلك من الجهات الداعمة الأجنبية. في مواجهة هذه التعقيدات، تجد حكومات هذه الدول نفسها وجهاً لوجه أمام مروحة من الخيارات في المرحلة المقبلة: النماذج التقليدية لبرامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج، مقرونة بعمليات إصلاح قطاع الأمن؛ ومحاولات تسخير واستيعاب المجموعات المسلحة للحفاظ على الأمن المحلي، الأمر الذي أطلق عليه بعض المراقبين تسمية “الأمن الهجين”؛ وما يتصل بذلك من إضفاء للطابع الرسمي على الجهات الفاعلة الأمنية المحلية وتصنيفها كجيوش تشكّلت مناطقياً وعلى طراز الحرس الوطني، على أن يكون مرتبطاً بسلطات قيادية مركزية أو إقليمية، ما يؤدي في الواقع إلى إنشاء هيكل عسكري ثنائي. وليس أي من هذه الأمور مثالياً، ناهيك عن أن كلاً منها ينطوي على درجات متفاوتة من المخاطر والعوائق، من حيث تعزيز أو إعادة تشكيل الصراع المسلّح، أو المساهمة في التشرذم، أو تعزيز السلطوية.
نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج -فشلت مختلف خطط نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج في الدول العربية المتشرذمة، ومن المهم البحث في الأسباب. أبرزها استمرار الصراع السياسي الداخلي: إذ في الوقت الذي بدأت فيه الأدبيات المتعلقة بإنهاء الصراع والصفقات بين النخب تظهر الآن، بات التوافق السياسي والأمني مطلباً أساسياً لتطبيق عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج، بدلاً من أن يكون الأمر على العكس من ذلك. والجدير ذكره هنا أن عمليات نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج، غالباً ماتكون سياسية إلى حدّ كبير، وتتطلّب إحراز تقدّم متزامن على جبهة التنمية الاقتصادية وسيادة القانون والعدالة الانتقالية. من الناحية المثالية، تتولى الدولة إدارة دفة هذه العمليات، على الرغم من أن المجتمع المدني يستطيع، بل يجب عليه، أن يلعب دوراً. وبالتالي، يُحدث غياب هذه الشروط المسبقة “معضلة أمنية” لاتكون فيها أية مجموعة مسلّحة على استعداد لنزع سلاحها، خوفاً من أن تتخلى بذلك عن هذه الميزة لصالح الأطراف المنافسة
تركّز أبحاث ويري على الإصلاح السياسي والقضايا الأمنية في دول الخليج وليبيا، والسياسة الأميركية في الشرق الأوسط عموماً.
تنطوي عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج في السياق العربي بشكل خاص على تعقيدات بسبب تقاطع عقبات محلية وخارجية، من بينها واقع أن الانخراط في الميليشيات، في العديد من الدول العربية التي تمزّقها الحروب اليوم، بدأ يتطبّع بالحياة اليومية، وتحوّل إلى ثقافة راسخة، واكتسب بالتالي معنى وجودياً، ناهيك عن كونه سبيلاً لكسب الرزق. وحول هذه النقطة الأخيرة، لايجب التقليل من أهمية دور الميليشيات كوسيلة لتوزيع الإيرادات النفطية على شريحة سكانية محرومة من فرص العمل الأخرى. وكما هو واضح بشكل خاص في حالة ليبيا، ترتبط عمليات نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج ارتباطاً وثيقاً بالتحدي المتمثل في تعزيز اقتصاد القطاع الخاص واستحداث فرص عمل للشباب الميليشياوي، من خلال توفير التدريب المهني والتعليم العالي وقروض الأعمال الصغيرة وغيرها من الاستراتيجيات الأخرى.
يواجه برنامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج على نحو متزايد عوائق، بفعل الدعم الذي تحصل عليه العديد من المجموعات المسلحة من رعاتها الأجانب، بما في ذلك التقديمات السخية من أموال وأسلحة، ما يُثبط أي محاولة لحلّ المليشيات. على سبيل المثال في اليمن، تفوق رواتب الميليشيات المدعومة من دولة الإمارات في الجنوب شبه المستقل بأشواط رواتب الجيش النظامي. كما تتحمّل الدول الغربية أيضاً اللائمة في هذا السياق: فمن خلال جهودها المبذولة للتصدّي إلى مجموعة من التحديات العابرة للحدود الوطنية، ولاسيما الإرهاب والهجرة غير النظامية (في حالة الدعم الإيطالي المقدّم إلى ميليشيات مكافحة التهريب في ليبيا)، عملت الجيوش الأوروبية والأميركية مع ميليشيات شبه حكومية ودرّبتها وزوّدتها بما يلزم لتنفيذ مجموعة واسعة من الأنشطة. وحتى لو لم يكن هناك تحويل للأموال وتزويد بالأسلحة، فالاهتمام الذي أُغدق بسخاء على هذه المجموعات يزيد من استقلالها الذاتي ويكرّس مجرد وجودها.
عدا هذه المؤثرات الخارجية، تعتمد مسألة ما إذا كانت المجموعات المسلحة ستسلّم سلاحها وتعاود الاندماج، وكيفية حدوث ذلك، على هياكلها الداخلية. وفي الواقع، ستؤثّر كيفية نشر المعلومات في أوساط المقاتلين على استخدام المحفزات، وأيضاً ما إذا كان يمكن ممارسة الضغوط على القيادة. هنا تطرح مروحة من الأسئلة نفسها: ما مدى قدرة المجموعة على مقاومة التأثيرات الخارجية، وإلى أي حدّ يمكن اعتبارها مترسخة داخل المجتمعات المحلية؟ هل قيادة المجموعة المسلّحة غير مركزية وغير رسمية أم رسمية ومركزية؟ هل يرتكز تمويلها على الاستحواذ على الموارد، أو على الحصول على الدعم من المجتمعات المحلية، أو الرعاية الأجنبية؟
كل هذه الأسئلة تبدو أيضاً وجيهة وذات صلة حين نأخذ في الحسبان تطوير مايسمى بنماذج الأمن الهجين للحوكمة الأمنية.
حوكمة الأمن الهجين – يُدرك الباحثون والحكومات والمنظمات الدولية أكثر فأكثر أن الخط الفاصل بين مزودي الأمن الرسميين وغير الرسميين، يتلاشى بصورة متزايدة في الدول التي تشهد صراعات والتي تمرّ في مرحلة مابعد الصراع على السواء، والتي اتّسمت بانتشار جهات فاعلة سياسية وعسكرية يحمل كل منها في جعبته ادعاءات متنافسة لاحتكار القوة. في مثل هذه “الترتيبات الهجينة”، يرى البنك الدولي، أنه يتعيّن “على الدولة العمل من خلال، ومع الجهات الفاعلة غير الحكومية، والمجالس، والمحاكم العرفية، وأمراء الحرب المحليين”. وقد أشارت وزارة التنمية الدولية في المملكة المتحدة، مرددةً ما سبق، إلى أن “التركيز في المقام الأول على موفري الأمن التابعين للدولة يُغفل أيضاً وجود أشكال بديلة لتحقيق الأمن”. ويتحدث أنصار التهجين عن نموذج “الحوكمة الجيدة بالقدر الكافي”: فبدلاً من الاستمرار في المطالبة وانتظار تشكيل حكومة متماسكة وقادرة، يُنظر إلى الحوكمة التي تشمل جهات فاعلة مسلحة غير حكومية باعتبارها الخيار الأفضل التالي. مع ذلك، يتوقف الكثير مما سبق على تصرّف الميليشيات بشكل “جيّد”، الأمر الذي يعتمد بدوره على روابطها الاجتماعية مع المجتمعات المحلية: مثل هذه الروابط، كما يجادل بعض الباحثين، ستعدّل سلوكهم وتمكّنهم من العمل بشكل مُنتج مع الوسطاء الاجتماعيين مثل القبائل والمجالس المحلية والمجتمع المدني وما إلى ذلك
تتضح صورة النموذج الهجين بصورة متزايدة في الدول العربية المتصدّعة التي تترأسها حكومات مركزية ضعيفة أو غائبة، وحيث تتضاءل احتمالات اندلاع حروب بين الدول. مع ذلك، يُعتبر مدى استدامة هذا النموذج واستقراره على المدى الطويل موضع جدل. وفي سياقات طائفية ومتشرذمة للغاية مثل سورية والعراق، ستلتف المجموعات المسلحة حول انتماءات مجتمعية ضيّقة قد تعزّز بالتأكيد العلاقات الإيجابية بين مزودي الأمن والمواطنين المحليين، لكن سيكون لها تأثير سلبي على السياسات الوطنية الشاملة. وفي حالات أخرى، لم تُثبت نظرية الروابط الاجتماعية التي من شأنها التخفيف من حدّة السلوك السيئ للمليشيات تماسكها على الإطلاق: فالقبضايات المحليون الذين تمّ حشدهم لحماية المجتمعات المحلية ضد المتطرفين أصبحوا شرسين وقساة. وهنا الأمثلة كثيرة: منها قوات الشبّيحة شبه العسكرية التي دافعت عن الأقلية العلوية والمسيحيين، واللجان الشعبية في محافظة أبين اليمنية التي حاربت تنظيم القاعدة، ومايسمى بالميليشيات السلفية المدخلية في ليبيا التي هزمت الدولة الإسلامية في سرت، لكنها منخرطة الآن في “الضبط الأخلاقي”، مثل إنفاذ الأعراف الإسلامية التي لا أساس لها في القانون المدوّن.
إضافة إلى ذلك، فإن مفاهيم الشرعية على مستوى المجتمع المحلي، كما يشير منتقدو النموذج الهجين، غالباً ما تكون موضع خلاف إلى حدّ كبير، وغالباً ما تكون الأصول “العضوية” للجهات الفاعلة الأمنية المحلية خيالية ومُركّبة. فعلى سبيل المثال، لا يمثّل “المجتمع” المسيحي صغير الحجم في العراق طرف مسلّح واحد، بل أطراف متنازعة عدّة: بعضها مرتبط بحكومة بغداد والبعض الآخر بحكومة إقليم كردستان. أخيراً، وكما ذُكر أعلاه، يميل تأثير الرعاة الأجانب المتنافسين على الميليشيات المحلية والقوات شبه العسكرية إلى إثارة مزيد من التشرذم والتطييف، الأمر الذي يحدّ من قدرتها على أن تكون أطرافاً محتملة توفّر الأمن بصورة إيجابية.
“الثنائية العسكرية”: الحرس الوطني والميليشيات المساعدة الأخرى
مفهوم آخر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالنموذج الهجين هو مفهوم تسخير الميليشيات شبه الحكومية إلى هيئة متوازية محلية المنشأ، تخضع ظاهرياً إلى السلطة السياسية نفسها كما القوات النظامية. هذا المفهوم الخاص بالجيوش الثنائية لهتاريخ مديد في الشرق الأوسط (في إيران والعراق والسعودية)، على الرغم من أن غالبية هذه الهياكل لم تكن تهدف إلى إضفاء الطابع الرسمي على الميليشيات شبه الحكومية، بل إلى استمالة قبائل قوية أو تأسيس قوات موالية إيديولوجياً كقوة مضادة للجيوش النظامية النزّاعة إلى القيام بالانقلابات العسكرية.
في أعقاب حروب مابعد العام 2011، وخاصة بعد الحملة المضادة لتنظيم الدولة الإسلامية، اكتسبت الفكرة جاذبية جديدة، من داخل المنطقة وخارجها. ففي العام 2014، دعا الرئيس أوباما علناً إلى دعم تشكيل حرس وطني عراقي باعتباره وسيلة تسمح للسنّة العراقيين بتحقيق “تحرّرهم الخاص” من الدولة الإسلامية، وهي فكرة أعادت بشكل أساسي صوغ الدعم الأميركي لمجالس “الصحوة” السنّية ضد القاعدة في 2006-2007. وفي ليبيا، واستناداً إلى المبادرات المحلية الرامية إلى تفويض الميليشيات الجهوية تحت إشراف وزارتيْ الدفاع والداخلية، اقترحت الأمم المتحدة في العام 2012 تشكيل هيكل شبيه بالحرس الوطني سُمّي “جيش ليبيا المدني”، الذي تقرّر أن يتألف من ثلاث “كتائب ثورية” من أجل إرساء الاستقرار والقيام بمهام الشرطة، فيما يخضع الجيش النظامي إلى تدريبات. وقد وجد أنصار الخطة الليبيين على وجه التحديد أوجه شبه مع تجربة الولايات المتحدة المتمثلة في دمج المليشيات بعد الحرب الأهلية الأميركية، ومع الجيش المدني البريطاني، ومع الحرس الوطني الدنماركي.
في كل من العراق وليبيا، تقوضت هذه الخطط بعد أن ارتطمت بجدار المعطيات المحلية. ففي العراق مثلاً، عارضت الكتل الشيعية مشروع قانون الحرس الوطني في البرلمان، لأنه كان يُعتبر وسيلة للاستقلال الذاتي السني. والأهم من ذلك، طغى على هذه الخطط تشكيل قوات الحشد الشعبي التي تهيمن عليها الميليشيات الشيعية، والتي شكّلت تحديات جديدة متعلقة بالدمج والدعم الخارجي بالوكالة من إيران، والانقسام الفئوي الداخلي، والتسييس. وبالمثل كان يُنظر إلى الحرس الوطني والتشكيلات المماثلة في ليبيا على أنها تصون مصالح الفصائل والمجموعات المسلحة الضيقة – من بلدة مصراتة القوية ومن الإسلاميين – وكانت تحظى بمعارضة من البلدات المتنافسة، والقبائل الموالية سابقاً، وسلك الضباط النظامي.
أخيراً، يمكن القول إن الدروس المستقاة من هذه الإخفاقات، تسلّط الضوء على مخاطر الجيوش الثنائية، ويجب أن تنير طريق أي محاولات مستقبلية لدمج هذه الميليشيات المُساعدة. كما يجب أن يتمّ إعداد هيكل الحرس الوطني ككيان انتقالي، من خلال خارطة طريق أوسع تتمتّع بقبول سياسي ومؤسسي، خاصة من السلك النظامي، وتحديد الأدوار والتسلسل القيادي بشكل واضح. وينبغي أيضاً أن تكون مصحوبة بمبادرات سياسية أوسع نطاقاً تتمثّل في إلغاء المركزية، لتشمل التمكين على مستوى البلديات والتوزيع المنصف للموارد، كما هو وارد في الدستور. والأهم من ذلك، كما ذكر ريناد منصور وفالح عبد الجبار في حالة قوات الحشد الشعبي، ينبغي دمج رجال الميليشيات كأفراد وليس كوحدات، لتجنّب استمرار الولاءات المنفصلة وتماسك المجموعات المرتبطة بالمليشيات.
يعتمد كل خيار من الخيارات التي جرت مناقشتها أعلاه على السياقات المحلية، لكن أياً منها لايمكن أن تضمن وحدها توفير أمن مجتمعي دائم. وكما توضح المقالات في هذا الملف، فإن النظام الأمني الجديد في الدول المتشرذمة مثل سورية والعراق وليبيا واليمن، معقّد وديناميكي، ولايزال من العسير تحديده. يمكن أن تكون مصطلحات مثل “التعددية الأمنية” أو “المناطق المتسلسلة ذات الانتماء المحدود للدولة” مفيدة جزئياً في عملية التنظير، لكنها لاتصل إلى حدّ توصيف فداحة المشكلة، أو حجم تكاليفها البشرية.
وبالتالي، لن تقتضي الجهود المبذولة لإعادة بناء مؤسسات أمن الدولة القيام بإصلاحات تقنية وتنظيمية وحسب، بل ستتوقف أيضاً على مروحة من الخطوات والإصلاحات الشاملة ضمن نطاق يتعلق باختلاف الأجيال. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: تأمين ديمومة المصالحة ووضع حدّ للنزاع الداخلي، وتطبيق إصلاحات الحوكمة الهيكلية مثل اللامركزية والإصلاحات، وتنويع الاقتصاديات القائمة على الإيرادات النفطية، ووضع حدّ أو تخفيض الدعم العسكري الأجنبي للوكلاء والأتباع المحليين.