لم تفاجئ العراقيين النغمة موحدة الإيقاع واللغة السطحية المبتذلة لبيانات الرئاسات العراقية وجميع الكتل السياسية خاصة قوى الإطار التنسيقي التي دعت إلى ضرورة الحوار والمصالحة ما بين الإطار التنسيقي والتيار الصدري، قادة تلك الأحزاب ليسوا قلقين على مصالح شعب العراق وأمنه بقدر خوفهم من أن تكون جولة الصراع الصدري – المالكي قد انتقلت بفعل التداعي الحاصل إلى معركة حقيقية بين الشعب الذي اقتربت منه حالياً مواقف مقتدى الصدر وبين قيادات الطبقة السياسية الفاسدة.اللافت استمرار بعض الزعامات المسؤولة عن الأوضاع المأساوية الحالية للشعب، استخفافهم بالعقل العراقي وقناعتهم المزيفة بأن بعض أعوانهم القلة من البسطاء والمتخلفين المعتاشين على رواتب ومكافآت محدودة تعطى لهم هي من الخزائن المنهوبة، هم الشعب الذي أعلن وفي أكثر من مناسبة قطيعته مع تلك الطبقة الفاسدة الموالية لطهران وسعيه بكل السبل الثورية المشروعة لتنحيتها عن الحكم.
أما ما يرصده المتابعون من بيانات الدعوة إلى الحوار والتهدئة من مصادر إقليمية ودولية، فهي تؤكد حقيقة أن المجتمع الدولي وأميركا وحتى بعض الأطراف الإقليمية لا يهمها مصالح شعب العراق المنكوب، إنما تهمها مصالحها في استمرار النظام الحالي الذي أوجدته معادلة احتلال عسكري بشع، لهذا تريد إبقاء الوضع المتدهور على حاله، شعب العراق لا يعوّل سوى على نفسه وتضحيات شبابه.أمام هذه الضجة الإعلامية للضغط على الصدر للرضوخ إلى الحوار والمصالحة والتخلي عن مشروعه لقاء مكاسب ذاتية كان وما زال يمتلكها داخل الحكومة، لم يلاحظ المراقبون بيانات مماثلة من قبل المتنفذ الأول في العراق، إيران، السبب أنهم المسؤولون والمتورطون فيما حصل ويحصل في العراق.
هناك من يتخوفون من مخططات الاشتباك المسلح، قد يحصل ذلك وهو تداع خطير، على مقتدى الصدر تنظيم مشروعه السياسي المانع لحدوث مثل تلك التداعيات المسلحة إسماعيل قاآني خليفة قاسم سليماني الموصوف بالساحر الذي امتلك قدرات فرض حلوله لدى السياسيين الشيعة التابعين، هذا الوريث الإيراني مُعتل القدرات، فشل في تمرير مشاريع الحرس الثوري وحلوله السياسية رغم ما قيل عن دعواته إلى المرونة مع الصدر في تسمية رئيس الوزراء. المشكلة أعمق، هناك مثلما يقال مراكز إيرانية متصارعة النفوذ، “اطلاعات” أبرزها. إضافة إلى أن طهران مُكبّلة بقصة النووي المستعصية، التي تشكل واحدة من معوقات حل الملف العراقي.
لا تمتلك القيادات الشيعية الموالية لإيران مواقف سياسية واضحة، حتى وإن كانت مؤتلفة في الإطار التنسيقي الذي يقوده نوري المالكي، بوجه الصدر. تنكشف التناقضات وتقلّب المواقف والاصطفافات تبعاً لقربها من الحفاظ على مصالح النفوذ والنهب. أحد القيادات الدينية الشيعية، من داخل الإطار التنسيقي، يدعو إلى الحوار بعد أربع وعشرين ساعة من اختياره لغة تصعيد الأزمة وإدانة اجتياح الصدريين للبرلمان وعدم التراجع عن ترشيح محمد شياع السوداني لرئاسة الوزارة الذي فجرّ الأزمة الأخيرة.تسعى القيادات الشيعية القلقة على مصيرها من تصعيد المعركة السياسية لتتحول إلى معركة الشعب وثورته، وهي قائمة فعلاً ضد حصون ومواقع سلطة تلك الأحزاب وميليشياتها، والأهم ضد الاحتلال الإيراني للعراق. لهذا تحاول تصوير المشكلة على أنها خلاف شخصي بين مسؤول الإطار التنسيقي نوري المالكي وقائد التيار الصدري، يمكن حلّها عبر التفاهم والحوار، ثم وضع الحلول بزيادة ثقل العطايا والامتيازات هنا وهناك، وكأن ثروات العراق ليست ملكاً لشعبه إنما هي مغانم لهؤلاء السراق يوزّعونها كما يشاؤون.
تاريخياً، من عام 2004 وحتى 2021، يمكن القول إنّ صراع المالكي مع الصدر يتعلق بزعامة السلطة السياسية، بعد أن توطن لدى العقل السياسي الشيعي شعور واهم بأن حكم العراق لا يمكن أن يخرج من أيديهم، سواء بالديمقراطية أو عبر وسائل أخرى كالسلاح مثلاً إذا ما اقتضت الحاجة. كما تولّد لدى المالكي شعور منذ توليه رئاسة الوزراء بنصيحة مرافق السفير الأميركي في العراق خليل زادة، حسب مذكراته المنشورة، أن حزب الدعوة برئاسته هو المؤهل لقيادة العراق، المُعرقل والأخطر على هذه الزعامة هو مقتدى الصدر لما امتلكه من خصوصيات التراث الحوزوي عن والده.كان الاختلاف كبيراً ما بين مقتدى الصدر، رغم بساطته الفكرية والسياسية في بداية مشواره السياسي، وبين المالكي المُحزّم بتراث معارضة النظام السابق الذي لم يسعفه أمام شعب العراق الذي رفضه بعد تورطه في الولاء لطهران منذ الحرب العراقية الإيرانية 1980 – 1988 وإلى حد الآن. الصدر اختار طريق المقاومة ضد المحتل الأميركي عام 2003 فيما كان قادة حزب الدعوة (إبراهيم الجعفري ثم نوري المالكي) يصافحان ويتوددان بعواطف غامرة ماكرة قادة الاحتلال ورمزه السيء جورج بوش الابن.
التطور السيء في مسيرة مقتدى الصدر هو اندماجه في العملية السياسية والحصول على مكاسب الوزارات والمال والجاه لأعوانه الذين تحول عدد كبير منهم إلى مافيا الفساد، والأخطر هو تورط عدد آخر غير قليل منهم بجرائم قتل المواطنين العراقيين من المكوّن العربي السنّي تحت ذات الشعارات الزائفة “البعث والتبعية لنظام صدام”.ثورة شباب العراق عام 2019 أحدثت اختراقاً عميقاً في جدار العملية السياسية تمزقت فيه أغطية الدفاع عن “الطائفة الشيعية”، كشفت كذلك أن الزعامات الولائية لم تتردد في قتل أكثر من 800 شاب شيعي وخلفت قرابة 22 ألف معوق وجريح.
لو افترضنا جدلاً أن أحزاب النظام السياسي القائم راغبة في حوار سياسي حقيقي، وليس التلويح بالسلاح مثلما كشفت تسريبات المالكي، أو تحجيمه في لعبة توزيع مكاسب السلطة الجديدة، كذلك في طرح جريء علني ومباشر، لقبلت بشجاعة بأن يكون مركز الحوار ومنطلقه قائمان على الصراحة في ما ألحقه الاحتلال الإيراني بالعراق من مخاطر على أمنه وحياته وسيادته، ووضع السبل الحقيقية لتخليص البلد من هذه التبعية المقيتة.فرصة تاريخية أمام شعب العراق وقواه الثورية وفي مقدمتها قيادات ثورة أكتوبر وجماهيرها لاستثمار اللحظة التاريخية، وإزاحة الطبقة السياسية وقتلة شعب العراق أما الألفاظ والتعبيرات الجاهزة في الدعوة إلى تجنيب البلد مخاطر الاحتراب الأهلي أو الشيعي أكذوبة ساذجة. لا توجد حرب شيعية – شيعية، إنما هي معركة بين الشعب والنظام السياسي القائم تمثل الجانب الشعبي فيها حالياً مواقف الصدر إذا ما صمد بوجه موجة التزييف التي يبدو أنه يتقن أهدافها. شعب العراق لا يتصالح مع قاتليه.
وصول الصدر إلى قناعة جدّية أن الحلول الترقيعية لن تخرج العراق من محنته، لا بد من ثورة تغيير حقيقية لإسقاط المنظومة السياسية وطرد الوجود الإيراني من العراق وقيام نظام سياسي جديد.هذا التطور الجدّي أعطى أهمية لاقتحام أنصار الصدر لمبنى البرلمان بسلاسة وللمنطقة الخضراء، وما تبع ذلك خلال الأيام الماضية من تطورات دراماتيكية تشير إلى أن المشروع جدّي، وإصدار البيان رقم واحد لما سمّاه الصدر بثورة عاشوراء. كان بياناً ثورياً احتوى على بنود للإصلاح الثوري الجذري، أعلن فيه نهاية النظام السياسي القائم، طالباً من فعاليات الشعب العراقي من العشائر، وكذلك من القوات المسلحة “أن ينضموا تحت لواء العراق”. وضع في هذا البيان خطة حقيقية لقواعد النظام السياسي البديل عن النظام القائم داعياً الشعب إلى عدم تفويت الفرصة التاريخية بالتغيير.
هناك تفصيلات رمزية تشير إلى أن قيادة مقتدى الصدر مدركة لمدى حساسياتها، كالدعوة إلى الحفاظ على الممتلكات العامة وما قام به المعتصمون من فعاليات ذات طابع شيعي مذهبي، مثل طقوسهم في اللطم ورفع شعارات ذات منحى طائفي متطرف لاقت عدم ارتياح من عموم العراقيين، سرعان ما انتقدها السيد الصدر، والتأكيد على أن مبنى البرلمان لجميع العراقيين.ما حصل خلال الساعات الماضية تطور جذري يتجاوز المظهريات السابقة في الاحتجاجات الصدرية إلى حقيقة أن الصدر ينفذ مشروعاً للثورة والانقلاب على النظام القائم.لا تُعرف إلى حد اللحظة مدى قدرة هذا التحوّل على الصمود أمام القوى المتضررة المتمثلة بالقوى الولائية وميليشياتها التي ستقاتل إلى آخر رجل فيها كما يقولون. وإلى أي مدى سيتمكن الصدر من كسب ولاء الشعب العراقي ليكون حامياً لحركته الثورية هذه.
هذه هي الحقائق الجديدة على الأرض. تطورات دراماتيكية لا تتمكن سطور مقالة في صحيفة متابعة مستجداتها الخبرية. الإطار التنسيقي رفض بيان الصدر ووصفه بأنه انقلاب مشبوه، لكن وفق الفهم العراقي الوطني لطبيعة الصراع الحالي قبل ما يمكن حصوله من تداعيات، هل بقى معنى لدعوات الحوار والمصالحة بين قطبين، الأول عراقي شعبي يعبّر عنه حالياً مقتدى الصدر، وآخر قطب يمثل الطبقة السياسية التي تحكمت بأمور العراق ونهبت ماله وارتهنت لولاء إيران وهو الحلقة الأخطر بالصراع.هناك من يتخوفون من مخططات الاشتباك المسلح، قد يحصل ذلك وهو تداع خطير، على مقتدى الصدر تنظيم مشروعه السياسي المانع لحدوث مثل تلك التداعيات المسلحة.هذه فرصة تاريخية أمام شعب العراق وقواه الثورية وفي مقدمتها قيادات ثورة أكتوبر وجماهيرها لاستثمار اللحظة التاريخية، وإزاحة الطبقة السياسية وقتلة شعب العراق.