هل من مصلحة النظام السياسي في العراق الكشف عن كل أسرار التنظيم الإرهابي “داعش”؟،سؤال غريب فعلا. ذلك لأن العراق هو من أكثر الدول التي تضررت بظهور ذلك التنظيم المتشدد الذي يرفع الراية السوداء في غزواته.ربما لهذا السبب يشعر النظام السياسي في العراق بالحرج. فبالرغم ممّا حدث من خراب سببه احتلال الموصل ومناطق غرب العراق وبالرغم من أن مسؤولية ما حدث تقع على عاتق النظام فإن ذلك النظام لا يزال مستمرا.
الأغرب من ذلك أن الرجل الذي أعطى أوامر الانسحاب التي كانت السبب في هزيمة القوات المسلحة العراقية في معركة لم تحدث وهو نوري المالكي لا يزال موجودا في صدارة المشهد السياسي العراقي باعتباره عرّابا للعملية السياسية، بيده الحل والربط وهو الذي في إمكانه أن يسمح أو لا يسمح للحكومة ورئيسها بالعمل.
يُفهم لماذا يشعر النظام السياسي بالقلق والإحراج لما يمكن أن يؤدي إليه التنقيب في خفايا التنظيم من مفاجآت قد تكون عبارة عن فضيحة من العيار الثقيل.ولكن نظام المحاصصة الطائفية لا يخشى أن تضاف فضيحة جديدة إلى سجله الغاص بالفضائح. غير أن فضائح الفساد شيء وفضيحة تمهيد الطريق أمام داعش لتدمير جزء بعينه من العراق لأسباب طائفية شيء آخر.
فريق التحقيق الأممي في جرائم داعش أنهى عمله بناء على طلب الحكومة العراقية.سبق للعراق أن نفذ أحكام الإعدام بالآلاف من الشباب ممَن اتهموا بالانتماء إلى التنظيم الإرهابي. هناك عشرات الآلاف ينتظرون في السجون تنفيذ أحكام الإعدام بهم. لم تثبت التهمة ضدهم إلا بناء على تقارير ما يُسمّى بالمخبر السري. كما أن هناك قانون 4 إرهاب الذي يُتيح الاعتقال بناء على الشبهات. ماذا يحدث لو طلبت اللجنة الأممية إعادة التحقيق مع المعتقلين وقراءة ملفات الذين أعدموا؟
كان ظهور داعش على الأراضي العراقية عام 2014 ومن ثم اندحاره عام 2017 مناسبة لتحقيق هدفين طائفيين. الأول يكمن في تدمير المدن ذات الأغلبية السنية سواء على أيدي مجرمي داعش أو على أيدي مقاتلي القوات المحرّرة، رسمية كانت أو شبه رسمية كما تُوصف ميليشيات الحشد الشعبي. الهدف الثاني يتعلق بالسماح باعتقال أكبر عدد ممكن من نساء وشباب تلك المدن بتهمة تقديم الدعم للتنظيم المدحور ونصرته والتغطية عليه وإمداده بسبل الحياة.
وبالنتيجة فقد تحقق الهدفان تحت نظر القوات الأميركية التي لولاها لما تم تحرير الموصل والمدن الأخرى بالرغم من أن تلك القوات كانت قد تعمدت تأخير تدخلها إلى أن يتمكن التنظيم الإرهابي من إنجاز كامل أهدافه في التدمير وبالأخص في ما يتعلق بالآثار القديمة التي هي من نفائس الحضارة البشرية.
لقد تواطأت أطراف كثيرة من أجل نجاح داعش في تنفيذ خطته، وليست سوريا وإيران بريئتين من المساهمة في ذلك المخطط الجهنمي. ولو تفحصنا جيدا شبكة المتآمرين الذين دعّموا داعش لاكتشفنا أن نوري المالكي هو آخر المتآمرين وقد كان مظلوما حين أدانه تقرير اللجنة التي شكلها مجلس النواب العراقي للبحث عن ملابسات ما جرى بعد هزيمة القوات العراقية وإعلان الدولية الإسلامية في الموصل. كان المالكي مجرد أداة تنفيذية. غير أن ما جرى كان قد أشبع لديه غريزته في الانتقام الطائفي.
لقد ضرب المالكي عصفورين بحجر واحد وهو الذي كان يمنّي نفسه بولاية ثالثة. أولا من خلال تنفيذ مخطط فرضته قوى دولية وإقليمية يعرف أنها تدعمه وهي المسؤولة عن بقائه، وثانيا من خلال تنفيذ حملة تطهير طائفي ما كان في إمكانه أن يقوم بها إلا من خلال حرب أهلية غير مضمونة النتائج.كل تلك الحقائق كان من الممكن أن تكشف عنها لجنة التحقيق الأممي. ذلك بإمكانه أن يشكل خرقا للنظام لم يتمكن محتجو تشرين عام 2019 من تحقيقه وهو ما يمكن أن يهدد استقرار النظام الذي هو استقرار مؤقت، قد لا ترى فيه الميليشيات في لحظة تصادم مصالحها أمرا واجب الاحترام.
ولكن هل تجرؤ الحكومة على عصيان إملاءات الأمم المتحدة لولا أنها لم تكن مسنودة بقوة دولية يمكنها أن تتصدى للمنظمة الدولية؟ أعتقد أن الأمور صارت أكثر وضوحا الآن. كل التنظيمات الإرهابية ومنها داعش لا يمكن النظر إليها إلا من خلال المنظار الأميركي، أما أيّ محاولة أخرى فإنها ستبوء بالفشل.ذلك يعني أن جزءا عظيما من لغز داعش سيظل مدفونا تحت ركام المدينة القديمة في الموصل مع جثث الأبرياء التي صارت جزءا من معمار المدينة الشهيدة.