حينما نتحدث عن مصطفى البارزاني فإنما نتحدث عن واحد من ابرز قادة الثورات في العالم، من الذين بدؤا رحلتهم من اجل الحرية والانعتاق بعد الحرب العالمية الثانية، وما أسقطته الحرب الأولى من اتفاقيات وتقسيمات ظالمة في خارطة الشرق الأوسط وارث الإمبراطورية العثمانية وهضم كبير لحقوق العديد من الشعوب، حيث انطلق يقود خيرة رجاله ورفاق دربه إلى مشروع قومي كبير في النصف الثاني من أربعينات القرن الماضي، وفي قلب الشرق الأوسط بين أربعة دول تقاسمت ارض الوطن الحلم، لم تكن رحلته مجرد حملة إنقاذ أو قوة لدعم انبثاق جمهورية في شرق الوطن، بقدر ما كانت عملية تاريخية لتحريك مخزون هائل لدى الشعب عبر قرون طويلة من التغييب والإذابة والتهميش، والبحث عن مكان تحت الشمس في العالم الجديد بعد توقف الحرب العالمية الثانية وتقاسم تركيا والعراق وسوريا وإيران ارض الوطن؟
لقد كانت الخطوة الأولى باتجاه بلورة نهج يحفز الشعب على النهوض، ويتجاوز الاستكانة والانغلاق وينطلق من المناطقية وثقافة الإمارات والقبائل، إلى مشروع قومي خلاق يتميز بروح نضالية عالية وبسلوك متحضر وراقي في التعامل والتعاطي مع مفردات القضية الكوردية، ابتداءاً من الأرض والطبيعة والشعب بكافة طبقاته ومكوناته، وكيفية التعامل مع العدو والتأكيد دوما على إن الصراع في حقيقته ليس مع العرب أو الترك أو الفرس كأقوام، بقدر ما هو صراع مع النظم السياسية المستبدة التي تحكم هذه الأقوام، وان الكثير ممن يقاتلون مع جيش العدو إنما مغرر بهم أو مغصوبين على ذلك.
بهذه الأسس الأخلاقية النبيلة وضع الملا مصطفى البارزاني بداية مشروعه الأخلاقي والحضاري للنهوض بشعبه ووطنه والانعتاق من أغلال الاستبداد السياسي والاجتماعي والقبلي والطبقي، فقد جمع حوله مختلف الشرائح والمكونات والطبقات والمستويات، وأشاع بينهم جميعا أنماطا رفيعة من العلاقات الإنسانية التي يعبقها الزهد والنزاهة المالية والتعالي على صغائر الأمور، وأبقى دوما مساحات اللقاء والتحاور والتفاوض وقبول الآخر حتى مع العدو، فقد كان يشرح لرجاله دوما إن العسكري الذي يحاربكم اليوم ليس عدوا بل مضطرا ومغلوبا على أمره، وغدا سيكون أسيركم فكونوا له إخوة وأصدقاء.
كان يحث كل مفاصل قواته العسكرية على أن الفروسية التي تتمثل باحترام الأسير واعتباره ضيفا وإكرامه حتى يتم تحريره، والابتعاد تماما عن أي عملية اغتيال أو إرهاب أو قتل لمدنيين لا علاقة لهم بالصراع، وان مهمتنا هي الدفاع والدفاع فقط للحفاظ على شعبنا وتحقيق حريتنا وزرع مفاهيم الأخوة والعيش المشترك في وطن حر وديمقراطي يحترم حقوق جميع البشر، بهذه الروح ابتدأ البارزاني مشروعه النهضوي دونما ادلجة أو نظريات فلسفية، بل بمنظومة سلوكية ميدانية تتعلق بالجانب الأخلاقي للقضية الإنسانية عموما ومنها القضية الكوردية وحقوق الإنسان أينما كان وفي أي زمان، وبذات النهج حقق الكوردستانيون عموما والكورد خاصة الكثير من أهدافهم خلال السنوات التي تلت انتصارهم في انتفاضة الربيع وتحقيق السلام والوحدة والازدهار، بحيث لم تسجل في تاريخ الحركة التحررية الكوردستانية أية عملية اغتيال أو تفجير إرهابي استهدف المدنيين، بل كانت دوما عمليات نوعية تستهدف العدو الذي يقاتل جيش الثورة من البيشمه ركه.
إن الثمار التي تقطف اليوم هي لتلك الأشجار التي زرعها البارزاني الخالد وروتها دموع ودماء المناضلين والشهداء من أبناء الوطن، إن الذين يقودون كوردستان اليوم كانوا تلامذة تلك المدرسة التي وضع أسسها وفلسفتها وقيمها الزعيم مصطفى البارزاني، فمنهم من أبدع وتفوق وأثمر هذه الثمار الجميلة والرائعة، ومنهم من فشل أيضا فأنتج ملفات الفساد التي كانت كالعصي في دواليب تقدمنا، وحري بالجميع اليوم وعلى مختلف المستويات والمسؤوليات، أن يكونوا بمستوى الوفاء لتلك الأفكار النيرة والنهج الطاهر والنقي الذي رسمه البارزاني مصطفى، لتأسيس مشروعنا الحضاري بعيدا عن الغلو أو التطرف أو الفساد، ويقينا إن المؤمنين بذلك النهج القويم سينتصرون لمبادئه وتطبيقاته ويحافظون عليه من أي محاولة لإفساد التجربة أو الانتقاص منها وتشويه مسارها، بما يؤمن إقليما ديمقراطيا حرا خاليا من الفساد والظلم ومتميزا بالعدالة والنزاهة والطهر لكي نصدق جميعنا بالإجابة على السؤال لماذا البارزاني اليوم وغدا؟
[email protected]
لماذا البارزاني؟ بقلم كفاح محمود كريم
آخر تحديث: