نحن مجتمع نتفاخر ونتباهى بالتقليد العشائري ، وكلما اتجهنا صوب الجنوب العراقي تتحول تدريجياً العشيرة الى هوية شخصية اقوى تأثيراً من الهوية الحكومية امام المعضلات ، والعشائرية لم تكن وليدة اليوم فهي إنتماءات متوارثة ، وأصل العشائرية هي النسب والارض ، فلا توجد انساب بدون وجود الارض لأن الدفاع عن الارض والعرض والنفس جعلت لنمو التجمع العشائري ضرورة قصوى ، فلا توجد اساس لعشيرة كبيرة بدون وجود ارض للأباء وللأجداد ، يعني اصل العشائرية هي الارض التي جمعت النسب ، لذلك تجد بعض القبائل ما زالت تسمي نفسها بأسم الارض او القرية او الناحية التي يسكنها افراد تلك القرية فلو قلنا قبيلة قريش لابد ان نذكر مكة وهكذا إذا رجعنا الى اصل كل عشيرة نجد الارض هي سر من اسرار تكوينها مضافة الى السر التقليدي وهو البحث عن القوة ، وهذه الحالة ليست محدودة في مجتمعنا بل نجدها في جميع المجتمعات البشرية من شمال اوربا حتى جنوب اسيا وسكان الامريكيتين وحتى عند الاسكيمو ، لذلك نفهم ان الغجر الرحل الذين ليست لهم استيطان في الارض الدائمية يفتقرون الى اسم العشيرة وترابط العشيرة ، وألقابهم دائماً ترتبط بأسماء أشخاص يمثلون قيادة هذا التجمع من الناس الذين ينقسمون على أنفسهم كلما ازدادوا عدداً لأن الكثرة العددية عند الغجر تخلق لهم مشاكل عند التنقل عكس الذي يستوطن الارض يكون بحاجة الى الكثرة العددية . العشيرة في عصر الدولة الحديثة ارتبطت وجودها مع وجود الدولة وقوة الدولة من ناحية وتطور الحياة المدنية من ناحية ثانية . فالدولة عندما تكون قوية والقانون يتم فرضه على الجميع وبلا استثناء ، هنا تقل الحاجة الى العشيرة ، وعندما تتوسع المدن وتنصهر الأنساب فيما بينها ، تصبح العشيرة من الماضي ، فمن المستحيل ان تجد مجتمعاً تذوق التطور والتقدم ويعيش تحت ظل القانون وهو مازال متمسكاً بالعشيرة ، اما إذا ذهب التطور وضعف القانون وقل الامان فأن الناس ستشكل لها عشائراً او تجمعات او أحزاب تسد الفراغ للدفاع عن نفسها ، العشائرية ليست عيبًا او منقصة إذا استوجبت الظروف وجودها ، ولكنها تصبح عيباً إذا تمسكنا بقوانينها واعتبرناها فوق الدولة ، انا عندما أتحدث عن العشائرية لا أقصد صلة القرابة بل القصد هنا العشائرية منهاج حكم وقانون وسلطة تذوب امامها الدولة ، وعندما تكون الدولة متعمدة في ان تعطي للعشائرية الدور الاكبر في قيادة المجتمع كما يحصل في العراق فهذا يعني ان هناك لغزاً وراء رجالات الدولة لهذا الفعل . لا توجد حكومة في بقعة من بقاع الارض تستسلم لإرادة العشائر ، الا في هذا البلد ، والسبب هو اللغز الذي نتحدث عنه وهذا اللغز فيه ثلاثة دوافع مترابطة سنطرحها تباعاً لكي يفهمها العقلاء بشكل عميق ولكي يدرك الناس ماذا وراء الكواليس . الدافع الاول : بما ان العشائرية تستند بقوة على الجهات الدينية والمرجعية الدينية بل وتخضع لإرادة المرجعية الدينية من باب المصالح المتبادلة والحب المتبادل على طول التأريخ ، فالعشائرية لايمكن ان تقف قوية بدون يد المرجعية ، والمرجعية لا يمكن ان تكون هي السلطة الحقيقية بدون دعم واسناد العشائر وشيوخ العشائر ، فهنا تكون السلطة الدينية هي السلطة الحقيقية التي تقود البلد من خلف الكواليس لأن العشائر التي بيدها القانون والدولة هي خاضعة للسلطة الدينية ، وهذه هي احدى الدوافع الرئيسية التي تحفز الاحزاب السياسية الدينية المسيطرة على نظام الحكم ان تستسلم للعشائرية لتي هدفها ابراز دور سلطة الدين على الدولة وتحقيق ولاية الفقيه بشكل غير مباشر ، اي ان الاحزاب الدينية تعمد على تدمير كيان الدولة من اجل تطبيق اهداف ايدلوجيتها وهو ان الحكم يجب ان يكون بيد رجال الدين .
الدافع الثاني : من خلال العشائرية تستطيع الاحزاب الموجودة في السلطة ان تضمن بقاءها في السلطة مهما أفسدت لأن رجالاتها لها قوى عشائرية مسلحة ورهيبة تقف خلفها ، اي ان المساس برجل السلطة يعني المساس بالعشيرة ، واية حالة انقلاب او تمرد عسكري او مدني على السلطة مستقبلاً يعني الحرب الاهلية . الدافع الثالث : تقييد وتجهيل المجتمع ، فالإنسان الحر يمكن ابتزازه عشائرياً بأي عذر ممكن ويمكن اذلاله فالدولة والقانون سوف لن تسعف هذا الإنسان الحر ، فلن يتبقى امام الاحرار واصحاب العقول المتفتحة الا الهجرة او الاستسلام لإرادة الفاسدين ، فلا أعتراض بعد اليوم على الفساد ، فالمفسدين اصحاب عشائر متنفذة وقادرة ان تفعل ما تريد ، وأما التجهيل هو النتيجة الطبيعية لهروب الاحرار والعلماء والمثقفين الذين يرفضون الانصياع للإبتزاز العشائري ويرفضون استسلام الدولة امام العشائرية ويرفضون سرقة الديمقراطية وتحويل الدولة الى دولة ايدلوجية ويرفضون الدولة الدينية ، وان هجرة الطبقة المثقفة والمتعلمة وهجرة الكفاءات يعني سيحل محلها من هو أقل تعليماً ، وهذا الاقل تعليماً أكيد سيكون جزءاً من المنظومة المهيمنة على الدولة التي سوف تستطيع البقاء اطول مدة ممكنة مع غياب التعليم والتطوير وكلما زاد الجهل أصبح بالإمكان تحقيق حلم بناء الدولة الدينية . هذا اللغز وهذه الدوافع الثلاث لا يعلم بها الناس ولا حتى شيوخ العشائر أنفسهم ولا حتى قيادات الاحزاب الدينية التي تأخذ تعليماتها من جهات خارجية ، فهؤلاء مستفيدين من هذا الواقع ، والمستفيد يعتقد الصواب بالحالة التي يعيشها ، فالناس وشيوخ العشائر تتفاخر بقوتها والتفاف ابناء العشيرة وتكاتفهم ولا يدرون إنهم ضحية مؤامرة لتدمير البلد ، وانا على يقين ان من يقرأ هذا المقال من رجالات الاحزاب الدينية وشيوخ العشائر سيصاب بالصدمة لأنه يجهل هذه الحقائق وهو أحد منفذيها .