أكثر مشاكلنا الاجتماعية والسياسية والعسكرية وحتى التأريخية سببها هو عدم الواقعية في التصرف والسلوك . وعدم الواقعية يعني شيء واحد هو القصور العقلي لفهم الذات واستيعاب المحيط ، ولكن توارثناها بهذا الشكل وسنحافظ عليها لأننا لا نرقى أن نكون واقعيين ، نظهر أنفسنا امام الناس كأننا أنبياء ولسنا كذلك ، نظهر أنفسنا شجعان ولسنا كذلك ، نظهر أنفسنا اغنياء ولسنا كذلك . نظهر أنفسنا أتقياء وسعداء ولسنا كذلك ، توارثناها اجتماعياً بهذا الشكل ، وللأسف سنستمر معها لأننا مجتمعات غير مؤهلة أن تكون واقعية ، عدم الواقعية تضع الإنسان بأحراج شديد ، تخيلوا إن احدهم لا يقوى على الوقوف على رجليه لضعفه ومرضه يذهب ليتحدى أحد أبطال الملاكمة ليثبت للناس أنه الأقوى ولم يحسب أنه سينفضح لاحقاً ومن الدقائق الأولى للنزال . ولكن مشكلتنا ليست عند هذا الحد ، بل المشكلة مع سياسينا وقادتنا في جميع دول المنطقة ، حماس تهاجم إسرائيل وهي تعلم أن إسرائيل قادرة أن تمحي حماس ومن خلق حماس . لكنها تفعل ذلك ظناً منها أنها ستغير الواقع و لأن قادتها يريدون ذلك كواحدة من أسرار بقاءهم في اعلى هرم السلطة فعندما يأتيهم الرد العاصف من إسرائيل يتوسلون وقف اطلاق النار أو الهدنة ، المليشيات في العراق تعلن نفسها مقاومة إسلامية ضد أمريكا ولا يريدون القول بأنهم حفنة من العملاء لتنفيذ أوامر إيرانية ، لا يقولون ذلك لأن العمالة للأجنبي خزي وعار لا يستطيعون البوح به ، وإلا هل من المعقول أن يصبح الشيعة الذين عاشوا طوال تأريخهم يبكون بسبب المظلومية ثم فجأة أصبحوا مقاومين أشداء وضد من ؟ ضد من رفع عنهم الظلم . أين كانت مقاومتهم مع من كانوا يشكون مظلوميتهم منه . لا يريدون الاعتراف لأنهم غير واقعيين . . يهرعون إلى عقد مؤتمر قمة للدول الإسلامية أي على مستوى الرؤساء للرد على أي عدوان غاشم يمس الأمة الإسلامية ، من هي الدول الإسلامية ؟ هي تلك الدول التي تتنازع فيما بينها على مدار الساعة ، أما أن تكون صراعاتها سياسية أو مذهبية أو عسكرية أو من أجل أمتار من الارض أو من أجل المياه ، فلم تجد دولتين إسلاميتين متجاورتين على وفاق ، هؤلاء يريدون أن يتوحدوا ضد عدو غاشم ، ياله من غباء وقصور عقل ، هؤلاء عندما يجتمعون فأنهم في قرارة أنفسهم يحضرون حفلة تنكرية . يطالبون الناس بمقاطعة المنتجات الغربية دعماً للقضية الفلسطينية ، يقاطعون استيراد الألبان والأجبان أما السيارات والكومبيوترات والانترنيت والفيسبوك وأجهزة النقال وما يحتاجونه من معدات وأسلحة فأنها معفية من المقاطعة والعلاقات الدبلوماسية والتجارية والرياضية وغيرها معفية ، بهذه العقلية غير الواقعية يدفعون الناس للمواجهة ، يخادعون الناس ويخدعون أنفسهم لأنهم غير واقعيين . نحن لا نكتفي أن نكون غير واقعيين بل نحارب من يريد ان يكون واقعياً من بيننا ، وقد يكون وجوده بيننا عار لا يحتمل . فيجب أن يفهم الإنسان الواقعي أنه يعيش في المجتمع الخطأ . الواقعية هي قمة الوعي والإدراك وفهم الذات ولا يصل إلى هذه المرحلة إلا من عرف نفسه وأستوعب الحياة بكل أبعادها ، فليس من السهل أن تصبح واقعياً مع هذا الجهل الساري في عقول الناس . الجهالة هي من تقود الحياة عندنا وهي من تقرر مصير شعوبنا . فذلك الواعظ الذي يعتلي المنابر ويحث الناس على القتال ويطالب الناس بالتحمل والصبر الجميل ، هو لا يقاتل ولا يتحمل شغف العيش ولا يصبر دقيقة واحدة على العوز ، وهو من يملىء جيبه بالدولارات و أن لسانه السليط قد قبض الثمن مقدماً ولا يهمه أحوال الناس لأنه لم يعرف معنى الواقعية في حياته ، ولو أراد أن يصبح واقعياً لما أستطاع أن يصعد المنابر . وأخيراً نتساءل هل هناك من بارقة أمل لنصبح في يوم من الأيام واقعيين ؟ الجواب أكيد سيكون لا ، لأن ذلك يعني التخلي عن جميع موروثاتنا الوهمية .