من حق الفلسطينيين أن يفكروا في قضيتهم بالطريقة التي لا يتسرب منها ما بقي من أحلامهم في استعادة وطنهم المغتصَب. من حقهم أيضا أن لا يعترفوا بالواقع الذي تم فرضه بالقوة وليس فيه شيء من العدل. كما أن من حقهم أن ينظروا إلى مستقبلهم بعيدا عما صاروا يعتبرونه أخطاء ارتكبها في الماضي سياسيوهم ولم تنتج عنها إلا اتفاقيات لم تلزم إسرائيل بشيء ولم تضعهم على الطريق التي تقودهم إلى دولتهم التي وعد بها ياسر عرفات.ولكن بالقوة نفسها ليس من حقهم أن يفرضوا طريقة تفكيرهم على أحد لم يشركوه في أفكارهم ولم يعرضوا عليه مخاوفهم بروح أخوية إيجابية. لقد شهدت العقود الثلاثة الأخيرة انكفاء فلسطينيا على الذات إلى الدرجة التي صار الفلسطيني فيها يشعر بأنه غير ملزم بتقديم شيء ما يعزز من خلاله ثقة الآخر به. لقد جرى تعميم نظرة فوقية متعالية على أسلوب التعامل مع أطراف عربية بعينها وهي الأطراف التي لم تتأخر عن إسناد ودعم الفلسطينيين ماديا ومعنويا. خرج علينا مَن يقول “إن على العرب أن يدفعوا من غير أن يملكوا الحق في السؤال عما يفعله الفلسطينيون”.
لا أعتقد أن علاقة غير متوازنة من ذلك النوع يمكن أن تستمر طويلا. صحيح أن سلطة القرار الفلسطيني قد تشظت وصار الفلسطينيون حائرين بين أن يتبعوا حلمهم في بناء دولتهم بناء على ما يُسمى بحل الدولتين أو يقفوا على حافة الواقع الذي ضمته سلطة رام الله إلى مقتنياتها الورقية أو يضعوا كل أوراقهم في ملف تنظيم ديني مسلح لم يخف ارتباطه بجماعة الإخوان المسلمين وانتسابه إلى المشروع الإيراني في المنطقة. ولا يمثل أي واحد من تلك الخيارات حجرا ثابتا للانطلاق بالقضية في اتجاه هدفها. فالقضية قد سقطت من حقائب المتفائلين باعتبارها ملفا يمكن العودة إليه إذا ما تعلق الأمر بالمآسي اليومية التي يعاني منها شعب تقطعت به السبل. فهو لاجئ في لجوئه وغائب في غيابه. بمعنى أنه لاجئ حتى لو كان على أرض وطنه، فأهل غزة معظمهم لاجئون، وهو غائب عن قضيته حين يكون مغيبا تحت حجر العقيدة التي يتداخل فيها الخداع بفنون اللعب على حبال الوقت. هناك مَن يأمل أن تُدخل حرب غزة القضية الفلسطينية في مسار جديد.
في ذلك المسار يتخلص الفلسطينيون مما يسمونه بـ“الوصاية العربية”. ذلك مصطلح يعبر عن عقدة وعقيدة في الوقت نفسه. وإذا ما عدنا إلى الواقع فإن الأنظمة السياسية العربية التي تدخلت في النضال الوطني الفلسطيني بطريقة سلبية ذهبت إلى المتحف وصار كل ما يتعلق بها شيئا من الماضي. لقد قتل الفلسطينيون بعضهم البعض الآخر تحت إشراف عربي. ولكنها عقدة ينبغي التعلم منها وتجريدها من عناصر قوتها بعد أن وصلت إلى ابتذالها. أما العقيدة التي كانت عربية خالصة فإنها لم تعد موجودة. وإن كانت موجودة فإن هناك مَن يفكرون في فلسطين عربية التي نادى بها الرئيس العراقي الراحل صدام حسين على منصة إعدامه وهم قلة من البشر الذين لا يملكون مكانا على الخريطة السياسية. مثلما يفكر الإسرائيليون يفكر الفلسطينيون في اليوم التالي لوقف إطلاق النار في غزة. كما لو أن القيامة ستبدأ في تلك اللحظة. وهي كذبة سعى الإعلام المقاوم مستندا إلى رؤية إسرائيلية إلى تمريرها. ستكون فلسطين أخرى بعد غزة.
أسوأ ما صار يفعله الفلسطينيون أنهم يصدقون أنهم يصنعون واقعا بديلا عن ذلك الواقع الذي فُرض عليهم وهم في الحقيقة لا يعملون سوى على زيادة نسبة المخدر بما يُطيل غيبوبة المريض. فيما تقيم قيادة حماس في قطر وتراقب ما يحدث في غزة من خلال قناة الجزيرة صارت صور الأبطال الذين يديرون الحرب من داخل غزة تتقدم صور المليون مشرد ولا صور لأكثر من ثلاثين ألفا من القتلى، أما المعاقون والجرحى فلا صور لهم. ومَن يتذكر القتلى والجرحى والمعاقين في الحروب؟ “ما بعد غزة” صار شعارا وهو شعار مضلل. ذلك لأن هذه الحرب عزلت غزة عن القضية الفلسطينية ودفعت بإيران إلى موقع لم يكن لها لولا أن حركة حماس مدفوعة بمنطلقاتها العقائدية قد قررت أن تقطع صلة العرب بالقضية الفلسطينية وهو مطلب إسرائيلي. لكن على الفلسطينيين الذين مازالوا يصطفون وراء حماس التفكير في الطريقة التي تخدم قضيتهم التي إذا غادرت حاضنتها العربية ستضيع.