تؤمن الحلقة الضيقة الممسكة، وحدها، بالحكم في العراق، من الإطاريين والصدريين والمتحالفين معهما، بأنها إذا ما تراخت وحَنت رأسها أمام الجماهير المتذمرة غير المنتمية لأحد أحزاب السلطة أو لأحد أحزاب معارضيها وحققت أحد مطالبها، حتى لو كان صغيرا هامشيا عابرا، فإنها بذلك ستُحدث ثـَلما ولو صغيرا لهيبتها، وهي الخبيرة بمزاج الجماهير التي ما إن يتحقق لها نصرٌ، من أيّ حجم وأيّ نوع، لا بد أن تطلب المزيد، والمزيد يجر إلى مزيد، حتى تصل الأمور في النهاية إلى ثورة كاسحة قد يعجز القضاءُ الحالي المسيَّس والبرلمان وجيش الحكومة والميليشيات عن وقف هجمتها، وقد تطيح بالنظام كله، ولن ينجو من انتقامها أحد في النهاية.
ففي التاريخ السياسي العراقي أمثلة عديدة على ذلك. واحدة منها تجربة الزعيم عبدالكريم قاسم الذي جامل الشارع العراقي، حين وافق على محاكمة بعض الشيوعيين وأنصارهم الذين ثبت أنهم شاركوا، بشكل أو بآخر، في مجازر الموصل وكركوك عام 1959، أو تسببوا فيها، فكانت خطبته في كنيسة مار يوسف هي الشرارة التي أشعلت الحقل كله، وأجازت للجماهير أن تتولى بنفسها، ودون انتظارٍ لحكم القضاء، مهمة التنكيل باليساريين والشيوعيين، لا فرق عندها بين مجرم وبريء. يعني أن تلك الخطبة هي التي حكمت على الحزب الشيوعي العراقي بالسقوط، وجاءت بالبعثيين 1963، ثم بالقوميين 1963، وبالبعثيين مرة ثانية 1968، ثم بسقوط نظام صدام حسين 2003 وتولي النخبة الحالية السلطة دون رقيب ولا حسيب.
وحالة الانسداد السياسي العراقي القائم والمستمر منذ إعلان نتائج الانتخابات في تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي وحتى اليوم، وقد يستمر لأشهر أخرى، هي نتيجة طبيعية ومتوقعة لعقيدة النخب الحاكمة التي تتحايل على مطالب الجماهير، فتؤيّدها كلاما وتعمل ضدها في البرلمان والغرف المغلقة.
ويمكن تحديد أصل المأزق الحالي بإصرار الإطاريين الولائيين على رفض شعارات ائتلاف مقتدى الصدر الثلاثي المطالبة بإنصاف الشعب، ومحاربة الفساد، واستعادة القرار الوطني المستقل، ومحاكمة قتلة المتظاهرين.
فالسماح له، في نظرها، بتشكيل حكومة على أساس هذه الوعود، حتى وهي تعلم بأنه عاجز عن الوفاء بأيٍّ منها، يعني تشجيعا للجماهير على طلب الوفاء بها أو ببعضها، وبخلافه سوف تتفجر ثورة شعبية جديدة قد تجبره على تقديم بعض هذا المزيد، وتبدأ رحلة المزيد والمزيد، ولا حدود.
وبالرغم من المواقف السياسية والعسكرية والدينية، العراقية والعربيّة والدولية التي تؤيده وتحثه على تحويل كلامه إلى عمل، إلا أن جبهة المعرقلين والمعوّقين، وأوّلُهم وأخطرهم نوري المالكي، ومعه زعماء البيت الشيعي الإيراني العراقي، هي السد الذي يقف ضده، ويعمل على إطالة أمد مناوراته من أجل إيصاله في النهاية إلى حالة القنوط، والإيمان بالفشل، ومن ثم العودة إلى التوافق معها، وإبقاء الحال على حاله سنة أخرى، أو سنوات.
لا مخرج من هذا المأزق إلا بعمل شعبي جراحي جذري شامل يقلب الطاولة، عاليها على سافلها، حتى لو كان ذلك مؤلما وبثمن باهظ من الوزن الثقيل
وهذه هي المشكلة التي أبقت الشعب العراقي معلقا في الهواء، منتظرا نتائج هذه الحرب الطاحنة بين الرافضين والقابلين، على أمل الحل الذي يحقق مصالح جميع المتقاتلين، والذي لن يأتي في غد منظور.
إن المأزق الحقيقي الذي وجد الشعب العراقي نفسه فيه يتلخص في حجم البون الشاسع بين التغيير الذي يحلم به ويصرّ عليه ولا يصلح حالُه إلا به، وبين الإصلاحات الموعودة التي لن يستطع مقتدى تمريرها من بين صخور وأشواك نوري المالكي وهادي العامري وقيس الخزعلي وفالح الفياض وإسماعيل قاآني وسفارة الولي الفقيه في بغداد.
فلن تسمح إيران لأيّ كان بتجريد أذرعها من سلاحها. ومقتدى، وهو المالك الشرعي لجيش المهدي وسرايا السلام ولواء اليوم الموعود، لا ينوي ولا يحتمل تبعات تسليم سلاح ميليشياته للدولة، وضم مئات الآلاف من أنصاره المقاتلين إلى جيش الحكومة لتعزيز عدته وعديده، في مواجهة سلاح الفصائل الولائية المسلحة.
وهذا ما أبقى ويبقي الأمور في خانة الترضيات والمفاهمات، أملا في اقتناع أحد الطرفين، أخيرا، بعجزه عن الاستمرار في محاولة الانتصار، ثم الاستغناء عن شريكه الآخر في السلطة، مع حرص الطرفين، وبضغوط إقليمية ودولية، على عدم دخولهما مرحلة كسر العظم الشيعي – الشيعي، بكل الوسائل والأساليب، في انتظار الحل التوافقي الموعود.
والسؤال هنا، إذا كانت كل تضحيات الملايين العراقية الغاضبة، خصوصا منذ انتفاضة تشرين 2019، لم تستطع أن تخيف أحدا من أصحاب السلطة، ولا أن تجبره على احترام إرادتها، فبأيّ عين وأيّ وجه يطلب رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، من الأطراف السياسية التحلي بالصبر والتعقل وترجيح مصالح المواطن على غيرها؟ وبأيّ عين وبأيّ وجه يطالب الشعب العراقي بالمزيد من الصبر وبالانتظار، وبأن يعض على جراحه وهو يرى قتلة أبنائه وسراق ثرواته، جميعا، يصولون ويجولون، ويهددون ويتوعدون، ومن خلف كل واحد منهم سفارة أجنبية أو جهاز مخابرات؟
إن شيعة إيران، وشيعة أميركا، وشيعة الدول العربية المجاورة، وسُنة الحكومة، وسنة أميركا، وسنة تركيا، وسنة الدول العربية المجاورة، وكرد إيران، وكرد تركيا، وكرد أميركا، وكرد إسرائيل، والشعبَ العراقيَّ المنتظر، جميعهم، شركاء في مأزق واحد، وأمام طريق مغلق وبلا نهاية.
فلا مخرج من هذا المأزق إلا بعمل شعبي جراحي جذري شامل يقلب الطاولة، عاليها على سافلها، حتى لو كان ذلك مؤلما وبثمن باهظ من الوزن الثقيل.