لا يمكن وضع علاقات بغداد بطهران منذ عام 2003 على مسطرة علاقات الدول الدبلوماسية خصوصا دول الجوار.كان طبيعيا أن تجعل طهران 1979 العراق في مقدمة برنامجها لتصدير الثورة الإيرانية، بغطاء مذهبي شيعي، لأسباب كثيرة أهمها أولا دافع الثأر من الوجع الذي خلفته حربها مع العراق لثماني سنوات، واعتقادها عدم تحقيق ذلك دون تغيير نظام الحكم العراقي، وإقامة بديل سياسي من التابعين لها. والسبب الثاني أن الساحة المذهبية العراقية أكثر بلدان العرب المجاورة تفاعلا مع المظاهر والطقوس الطائفية الإيرانية المنتقاة بدقة.
اعتقد المرشد الأعلى علي خامنئي خليفة خميني، الذي مات ولم يذق طعم انتصار مشروعه في العراق، أن بالإمكان استنساخ تجربتهم في انتصار الثورة الإيرانية على الانتفاضة والثورة الشيعية في العراق، لكي لا تخرج عملية التغيير المنشود عن قبضتهم، مع أن حقيقة سيطرتهم على الحكم في طهران تمت بعد الالتفاف على المشروع الوطني الإيراني وسرقة الثورة وإعدام عشرات الألوف من الإيرانيين، من بينهم مناضلو منظمة مجاهدي خلق التي تشكل اليوم أهم فعاليات المعارضة ضد النظام القائم.
حاول النظام الإيراني خلال أيام الحرب مع العراق وفشل في دفع الأدوات العراقية الموالية له لتنفيذ فعاليات إرهابية تستهدف مؤسسات الدولة العراقية في الداخل والخارج عبر التفجيرات والمفخخات، ذلك الأسلوب الإرهابي الذي سبقوا داعش في تطبيقه، لكن ردود الفعل كانت سلبية، لأنها كشفت أن المنظمات الشيعية الموالية للنظام الإيراني لا تمتلك أدنى مستويات الولاء. لم تكن بطولات وطنية معتبرة فقد استهدفت مدنيين أبرياء، بينهم موظفون في مؤسسات مدنية، لتصبح الإنجاز “الإسلامي الشيعي” الوحيد الذي يتبجح به قادة الحكم اليوم خاصة حزب الدعوة.
المحاولة الفاشلة الثانية كانت عام 1991 في استغلال نظام خامنئي لحالة الانهيار العسكري العراقي، خلال انسحاب قطعات الجيش من الكويت بشكل مُؤلم تحت الضربات الوحشية للتحالف الثلاثيني، الذي قادته إدارة بوش الأب. اعتقد الإيرانيون أنهم قادرون على تنفيذ اجتياح عسكري إيراني تحت غطاء بعض العراقيين داخل الأراضي العراقية، بدأوا به فعليا، عنوانه السياسي والإعلامي دعم “انتفاضة شعبية” تصل إلى بغداد وتنزع السلطة من يد نظام صدام.
حال الانتداب الإيراني إلى نهاية سريعة، لأن نظامه يتقمص دور الإمبراطورية الجديدة القائمة على الغش والخديعة واستخدام الدين والمذهب. إمبراطورية جوفاء نظامها منبوذ
صُدم النظام الإيراني مجددا وهو يرى عزلة أنصاره المعدودين من دعاة حزب الدعوة والمجلس الأعلى، رغم تشكيل فيلق من مجاميع الهاربين من بعض الجنود واللاجئين تحت عناوين مختلفة منها ما سمي “التوابوّن” في إيران. ولم يكسبوا قادة من الجيش العراقي لديهم القدرة على تحريك قطعات عسكرية من المحافظات الجنوبية تلتقي مع مثيلاتها في العاصمة لإسقاط النظام، لأن حرارة الحرب وانتصار العراق فيها مازالا في نفوس أبناء الجيش الوطني وأبناء العراق.
ما حصل هو تنفيذ حملات إعدام إرهابية وحشية في شوارع المدن الجنوبية ضد منتسبين من الجيش الشعبي وقادة محليين لحزب البعث، وتخريب ونهب لمؤسسات الدولة، من بينها مؤسسات إحصاء النفوس للعب الديموغرافي في ما بعد. فيما أوجدت السعودية برغبة أميركية منفذا للكثير من الهاربين العراقيين من الجيش المنهار، أو المدنيين الذين تسللوا من إيران، أو الذين شاركوا بما سميت “الانتفاضة الشيعية” في معسكر رفحا السعودي، الذي تحول كغيره من القصص الفردية المحدودة إلى عناوين للبطولة الزائفة، استخدمتها الأحزاب بعد عام 2003 لتوزيع المكاسب والرواتب بلا حدود، مقابل حرمان المستحقين لحقوقهم المدنية.
السعودية ساهمت، من غير قصد، في صفحة تصعيد النظرية التاريخية المزوّرة “المظلومية الشيعية”. فيما لم يحفظ الهاربون وقادتهم من الأحزاب كعادتهم الحد الأدنى من الوفاء للرياض، مثلما حصل مع الأميركان. كما كشفت هذه الحالة كذبة ادعاءاتهم حول ترويج السعودية للطائفية السنّية، إن وجدت.
في تلك اللحظات الدقيقة من عام 1991، لم يكن مشروع الاحتلال الأميركي للعراق قد تبلور بعد، مثلما حصل في الأعوام القليلة اللاحقة، لهذا أبلغ البيت الأبيض البنتاغون بالعمل على إعاقة تنفيذ طهران لمشروعها لاجتياح الجنوب العراقي، وهو ما فسره المتخلفون من قادة الأحزاب وغيرهم من الجهلة في ما بعد بأن عدم اعتراض تحليق الطائرات السمتية الرسمية العراقية التي يستخدمها النظام لملاحقة فلول المتمردين كان قرارا أميركيا هدفه إبقاء نظام صدام في السلطة. بينما الحقيقة أن القرار الأميركي خدم نظام خامنئي، لأن الغزو العسكري الإيراني لو حصل لتحولت مدن الجنوب العراقي إلى مقبرة للغزاة.
استدرك نظام طهران تصرفه الأهوج، متقبلا صفقة التحالف مع واشنطن بعد تبلور مشروعها لاحتلال العراق، بما أكد سذاجة صاحب القرار الأميركي ورخص الصفقة، وهو ما قد يفسره البعض بأنه ناتج عن رغبة حقيقية لوحدة هدف تدمير العراق.
تطلّب “التحالف الغادر”، حسب وصف الكاتب الأميركي تريتا بارسي في كتابه الوثائقي المهم، الذي أدعو المثقفين والمتابعين العراقيين لقراءته، وجود التزامات أميركية – إيرانية متقابلة، دوّن بعضها تاريخيا في توثيقات السفير الأميركي السابق خليل زاد، وبعضها الآخر مازال محفوظا في أدراج البنتاغون والسي.آي.أي.
أبرز مظاهر الصفقة الأميركية – الإيرانية المدعومة إسرائيليا، والتي سهّلت مشروع نظام خامنئي لانتداب العراق، هو التنسيق الميداني ووحدة الموقف في مواجهة المقاومة الشعبية العراقية، التي لم تحمل في أيامها الأولى، مثلما حصل في ما بعد، أي أجندات عقائدية أو سياسية غير هدف قتال الاحتلال وإجباره على الرحيل.
سعى الإيرانيون لإبعاد شبهات صفقتهم الدنيئة لتسهيل مهمات المحتل الأميركي، وفتحوا قنوات اتصال مع بعض قادة المقاومة ودعوا بعضهم إلى طهران، في خطوة مظهرها المساندة والدعم المادي والمعنوي، وحقيقتها كشف نوايا قيادات المقاومة والخطط الميدانية وإجهاضها بالتنسيق مع المحتلين الأميركان.
قبل انتهاء مهمة الحاكم الأميركي بول بريمر في العراق، أنجز وضع القواعد القانونية والدستورية لنظام الحكم الطائفي الجديد، وتم غلق أي نافذة وطنية لبناء عراق المواطنة، ليصبح الطريق سالكا أمام استكمال متطلبات الانتداب الإيراني.
من بين متطلبات إنجاز مشروع الانتداب الهزيل التركيز على صناعة العملاء بخصوصيات العقيدة “الشيعية” لتبعد عنهم، رغم سذاجة مواصفاتهم الشخصية، التقاليد والأحكام المعروفة في عالم التجسس وخيانة الوطن، كذلك التزام الطاعة المطلقة العمياء للنظام الإيراني ومرشده الأعلى بعد فتح خزائن العراق وثروته كأجر محسوب بعد استقطاع النسبة الكبيرة لصالح طهران.
قبل انتهاء مهمة الحاكم الأميركي بول بريمر في العراق، أنجز وضع القواعد القانونية والدستورية لنظام الحكم الطائفي الجديد، وتم غلق أي نافذة وطنية لبناء عراق المواطنة
على المستوى السياسي، حرص المشرفون الإيرانيون على ملف الانتداب، من بين فعاليات كثيرة، على إقامة تحالف عراقي شيعي – كردي تم غض النظر فيه عن المكاسب الكردية التي ضُمنت بوثيقة الدستور، دون الاكتراث بالعقبات الجيوسياسية التي وقعت في ما بعد في علاقة الأكراد بالمركز السياسي الشيعي ببغداد، مثل السماح لهم بتنظيم قانون للنفط والغاز الخاص بهم، أمام تغييب مقصود لعدم تشريع قانون وطني اتحادي لهذا المرفق الحيوي، والانقلاب على ذلك التغاضي في ما بعد.
ما حصل على الأرض أن هذا التحالف الموظف لأهداف إيرانية مرحلية لم يصمد بعد إعادة الحالة العراقية في الوسط والجنوب إلى عالم ما قبل الدولة، في هيمنة مافيا النهب والفساد وسطوة الميليشيات الولائية على مرافق الحياة العامة. ارتكب القادة الأكراد الخطأ التاريخي في تسهيل وترتيب متطلبات الانتداب الإيراني في العراق، فهل هم اليوم نادمون على ذلك، ستكشف الأيام المقبلة ذلك.
كان من بين أهم العقبات والأزمات التي واجهت نظام الولاية الإيرانية على العراق ووصوله إلى المأزق التاريخي الحالي، عدم اكتراثهم بمواصفات صنائعهم حكام بغداد، الأقرب إلى اللصوص منهم إلى السياسيين. اهتم الإيرانيون بجانب أمان تدفق المكاسب غير المحدودة لنظامهم الذي أصبح يعاني العزلة والعقوبات، لكنهم وقعوا بمشكلات نتائج غش تلك الطبقة المسماة سياسية وكذب قادتهم على المرشد الأعلى في ملف العلاقة بالجمهور الشيعي.
ثورة أكتوبر الشبابية 2019 وضعت النظام السياسي وقادته في زاوية حرجة، ضاعفتها أساليب القمع الدموي وقتل المئات وجرح الآلاف، وفككت مشروع الانتداب الإيراني وفضحت أدواته، كمجموعة فاسدة لا تتردد عن حرق العراق إذا ما تعرضت مصالحها للخطر، وهو ما حصلت مقدماته بعد انتخابات 2021.
استدرك نظام طهران حساسية الوضع الشعبي العراقي الجديد على نظام وآليات انتدابه للعراق، لكن بسبب طبيعة العقلية الدكتاتورية، المتحكمة برأس النظام، كان الخيار الوحيد الحلول البوليسية القمعية. وعلى غرار السياسات القمعية تجاه شعوب إيران المظلومة، كانت التعليمات قاسية بسحق الثورة الشبابية وتشويه حقيقتها.
الصدمة الكبيرة التي واجهت نظام الولاية الإيرانية وما تلاها من تداعيات أخرى، هي واقعة الانتخابات البرلمانية الأخيرة في كشفها حقيقة انعدام صلة مدّعي قيادة الجمهور الشيعي في العراق وعزلتهم. وبدلا من استخدام نظام ولي الفقيه تجربته التقليدية داخل إيران في تحميل المهزومين المسؤولية وتنحيتهم عن الطريق، وجد أن هذا الحل سيصيب مشروعه في العراق بمقتل، لهذا لجأ إلى أسلوب ترحيل الأزمة إلى خارج تلك الكيانات السياسية العراقية لحمايتها المؤقتة، فتمت عملية فك التحالف المصلحي بين السياسيين الشيعة والأكراد عبر سلسلة من الإجراءات المعروفة.
دفعت التداعيات الأخيرة وتشابكها مع تعقيدات ملف العلاقات الإيرانية – الأميركية رأس النظام الإيراني إلى إصدار تعليماته لموظفيه، سواء “مندوبه السامي” السفير إيرج مسجدي الذي حرص على إذلال العراقيين وإهانتهم خلال فترة عمله ثم في رسالة نهاية خدمته في العراق، أو قادة الحرس الثوري المشرفين على الملف العراقي، بإظهارهم الاعتداد الإيراني العالي بانتداب العراق، والاستهانة بكل من يتحدث أو ينوي التصرف بمنطق السيادة والاستقلال العراقي معهم، لدرجة استخدام الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ألفاظا تفتقد اللياقة في توجيه الأوامر لوزير الخارجية العراقي خلال مقابلته له قبل عدة أيام.
هكذا هي حال الإمبراطوريات ومسلسل احتلالها لشعوب الكرة الأرضية، ومن بينها العراق، لها زمن محدود، رغم قساوته على الشعوب، تُجبر على الرحيل في النهاية.وحال الانتداب الإيراني إلى نهاية سريعة، لأن نظامه يتقمص دور الإمبراطورية الجديدة القائمة على الغش والخديعة واستخدام الدين والمذهب. إمبراطورية جوفاء نظامها منبوذ من شعب العراق ومن بشرية القرن الحادي والعشرين.