كان حظ أول مفوض أممي في العراق سيرجيو فيرادي ميلو عام 2003 سيئا حين قُتل بتفجير إرهابي لمقر البعثة الأممية ببغداد بعد ثلاثة أشهر من مباشرته العمل. كان رجلا مهنيا أمينا على رسالته. أغضب بول بريمر حين أبلغه بأنه سيقدم تقريرا لمجلس الأمن حول الانتهاكات الأميركية في العراق، رد عليه بريمر “سيرجيو.. مهاجمة الولايات المتحدة ليست أفضل طريقة لتصبح الأمين العام المقبل للأمم المتحدة”، قالها قبل أن يغلق سيرجيو سماعة الهاتف وتنفجر القنبلة وتقتله مع من معه في المقر الأممي وفق رواية الفيلم التوثيقي لحياته.
مرحلتان فاصلتان في تعاطي الممثلة الأممية في العراق جينين بلاسخارت منذ مباشرتها عملها في العراق في الأول من سبتمبر عام 2018 بعد سلفها ليان كوبيتش سيء السمعة، لمواصلة مهمة التفويض الأممي وفق القرار 1500 عام 2003، وليس مثلما يساق خطأ بناء على طلب الحكومة العراقية، لأنه في ذلك العام لا توجد حكومة عراقية بل حاكم أميركي مفوض من قيادة البيت الأبيض.
لم تأت جينين لمهمتها من أروقة الأمم المتحدة، آخر حلقة من سيرتها في بلدها هولندا كانت وزيرة للدفاع قبل استقالتها عام 2017 لانتهاكات أضرت بالقوات المسلحة لبلدها خارج الحدود الهولندية، ثم تورطها في فضيحة التغطية أمام برلمانها بنفي قتل القوات الهولندية لـ70 مدنيا عراقيا عام 2015، فيما اعترفت خليفتها بهذا الانتهاك الفاضح. كان بين يدي الأمين العام للأمم المتحدة هذا الأرشيف في ملفها الشخصي، مع ذلك تم تعيينها لا نعرف لماذا؟ فاعتبارات توزيع الوظائف في الهيئة الأممية لها حسابات أخرى وصفقات مريبة.
لا تكفي المصادر الأساسية للمعلومات العامة التي حملتها بحقيبتها وهي قادمة من نيويورك إلى بغداد عام 2018 وفق توجيهات دعم “النظام الديمقراطي” القائم والتسليم بأنه محكوم من قبل الشيعة الولائيين، وهو وهمٌ مازال مرافقا للذهنية التي سوقها الاحتلال الأميركي للمجتمع الدولي وتعطيل أي تغيير شعبي وطني لها منذ عام 2003 لحد الآن، رغم ما حصل من انتهاكات ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية، آخرها قتل ثوار أكتوبر 2019 لأسباب تتجاوز روتين المصالح، بعضها مازال مجهولا.
وظيفة بلاسخارت تطلبت فتح قنوات متعددة وليس الاقتصار على أطراف نافذة لوحدها في الميدان كمصادر للمعلومات، خصوصا المعارضين السلميين للنظام القائم ولمسيرة الاستبداد والفساد لكي ترسم الصورة القريبة من الواقع، وهي تعرف أن هناك انقساما سياسيا تزايدت حدته بسبب هيمنة أحزاب الإسلام السياسي المتورطة بالفساد والعمالة للخارج. كان بإمكانها مزج المعلومات وخلطها في الكأس برومانسية سياسية، لا شك أنها تتقنها، وإضفاء خصوصية نكهتها عليها، لكنها لم تفعل ذلك ليس لضعف في الإمكانية الشخصية، بل لأسباب ودوافع أخرى مازال الوقت مبكرا لكشفها أوقعتها في صدماتها المتتالية ومحاولة الخروج من شراكها في الأشهر الثلاثة الأخيرة.
الآن اكتشفت بلاسخارت أن العراق ليس بحاجة إلى حكام مسلحين ينصبون أنفسهم زعماء. وأن دبلوماسية الصواريخ أفعال متهورة مع ما قد يترتب عليها من عواقب مدمرة محتملة
ليس من السهولة على امرأة غربية بمفردها كشف الأهداف المدفونة ودوافع التخريب والفوضى للأحزاب الشيعية والميليشيات واستخدام أدوات القتل اعتمادا على تصريحاتهم العلنية، فهي لا تفهم نظرية “التقيّة الشيعية”، فتماهت مع فعل القوة على الأرض لإرضاء أصحابها، رغم قمعهم للشعب. كان هذا خطأها القاتل لكونه منافيا لحقوق الإنسان والأعراف الأممية. والأخطر أنها خلال عام 2019، ثم بعد ثورة شباب أكتوبر، جاهرت بلقاءاتها مع متورطين بالقتل والعنف، وأهانت ثوار أكتوبر بوصف الحالة بـ”العنف المتبادل”، رغم جولتها الاستعراضية في ميدان التحرير ببغداد المُستفزة للثوار.
توقعتْ وأخطأتْ في حساباتها بأن تلك القوى الولائية وأحزابها ستتعاطى مع فكرة الانتخابات المبكرة لتكون مخرجا سلميا للحل لكي تسوّق نجاحها في المهمة، لكنها فوجئت بوصف قادة الميليشيات للانتخابات المبكرة “بأنها مؤامرة أميركية”.
توهمت أن كلامها الدبلوماسي الناعم مع قادة الميليشيات ببغداد، أو ذهابها للنجف واللقاء بمرجعيتها، قد يترك آثاره ويفتح نافذة للتهدئة ثم الحوار مع الشعب الثائر، أو خضوعها لخدعة أحد قادة الحرس الثوري السفير أريج مسجدي بالذهاب إلى طهران واللقاء بمسؤول مكتب المرشد خامنئي، علي أكبر ولايتي، الذي صدمها برفضه طلبها تخفيف قبضة الميليشيات على الانتخابات وبتصريحه المتعجرف بعدم قبول تدخل أحد غيرهم في الشأن العراقي.
كان جديرا بها أن تجعل من ثورة أكتوبر 2019، بوصفها تعبيرا واقعيا لرفض النظام القائم، قاعدة معلومات توصلها بأمان إلى مجلس الأمن الدولي، وما صاحبها من جرائم قتل لأكثر من 800 شهيد وعشرات الألوف من الجرحى، وإجبار الثوار رئيس الحكومة عادل عبدالمهدي الأكثر إباحية في التواطؤ مع القتلة على الاستقالة. كذلك سلسلة الاختراقات الصارخة للأمن الوطني كمحاولة اغتيال رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي وغيرها من الانتهاكات. لم يطلب شعب العراق منها الانحياز أو أن تصبح شرطيا دوليا في العراق، بل ناقلا أمينا للحقائق.
في السادس من فبراير 2021 نشرت مقالا في “العرب” تحت عنوان “بلاسخارت وصدمة عشق ملالي طهران” تساءلتُ فيه إن كانت بلاسخارت ستعلن حقيقة صدمتها للجمهور العراقي والعالمي، وتكشف أن ملالي طهران يستحضرون خططهم ووسائلهم لانتخابات العراق بحياكة نسيجها كسجادهم العجمي، ممهدين لمجيء الجيل الثاني من قادة حرس خامنئي في العراق، جيل السلاح والعنف المُفرط والسخرية من اللعبة الديمقراطية، إن لم تلبِ رغباتهم بالاحتفاظ بالعراق الولاية 32 لإيران. أم أنها لن تبيح بصدمة عشقها للحفاظ على ماء وجهها وامتيازاتها لا تهمّها لعنة شعب العراق والتاريخ؟ ما حصل واقعيا انهيار مشروع الحرس الثوري في العراق.
تراكم الأحداث واضطهاد وقتل العراقيين والفشل والتورط المخزي في الفساد الذي يعود على واشنطن بالحرج، ثم وقوعها في السنوات الثلاث الأخيرة في دائرة الاستهداف العسكري الميداني من قبل الولائيين، وتصاعد مشاعر القلق من احتمالات حصول إزاحة جديّة لقادة النظام الفاسد على يد الشعب، وهي نتيجة لا تقبلها القوى والأطراف الدولية والإقليمية، كل ذلك أجبر مجلس الأمن الدولي في نيويورك على معرفة تفصيلات ميدانية لما يحصل من خلال ممثليته في بغداد، أضيفت إلى الكم الهائل من المعلومات الاستخبارية لأكبر سفارة أميركية في العالم.
لا يكفي افتراض حصول تحول في موقف بلاسخارت شخصيا، هي ليست غبيّة، بل ماكرة، اكتسبت بعض خبرات أزلام إيران وعملائهم في المخادعة. وجدت لنفسها الفرصة المنطقية لإنهاء حيرة ما بعد صدمة إهمالها من جبهة الموالين الذين أرادوها أداة منفذة للمشروع الإيراني الذي تأكدت من أهدافه خلال زيارتها اليتيمة إلى طهران هم لا يقبلونها لتكون وسيطا مع أي من العراقيين.
تحولت حيرة بلاسخارت، بعد نتائج الانتخابات الأخيرة وما شهدته من تجاوزات على الديمقراطية والدستور وتعريض البلد إلى مخاطر جدية، إلى الاستجابة الذكية لضغط الأحداث ورغبة مسؤوليها في معرفة ما يحصل، وإلى مسار جديد عبر موسمَي الإحاطة في الرابع والعشرين من فبراير والسابع عشر من مايو 2022.
لا يكفي افتراض حصول تحول في موقف بلاسخارت شخصيا، هي ليست غبيّة، بل ماكرة، اكتسبت بعض خبرات أزلام إيران وعملائهم في المخادعة
موسم الرابع والعشرين من فبراير كان تمهيديا لتوصيف جزء من الحقائق وليست كلها، فقد انقادت إلى التعبير وفق منظور “نصف الكوب الممتلئ” رغم أن الحالة العراقية تتطلب نقل الحقيقة دون مجاملات. واقتربت من محرّمات الأحزاب والميليشيات، في إطلاقها توصيفات واضحة لما حصل من تدهور سياسي وأمني واقتصادي ومخاطره المستقبلية.
انتقدت بلاسخارت بوضوح عملية تعطيل آليات تعيين رئيس الجمهورية والوزراء، وجدل حكومتي الأغلبية والتوافقية، ونقلت بعض تفصيلات وقائع سخط العراقيين.
ضغط الصدمة الشخصية دفعها للتعبير الرومانسي عن حالة شعب يجوع ويُقتل ويُشرّد، فاختارت أن تنقل مشاهداتها في جولة سياحية لها في الأهوار للحديث عن بيئة التصحّر والحرمان من المياه، دون تشخيص صريح لدور للطرف الإيراني، الذي قطع مجاري الروافد وحولها عن العراق وسط مهانة صمت حكومة بغداد، مع أنها قضية تتطلب تدخلا دوليا لصالح شعب العراق.
كانت المفاجأة التي أغضبت الولائيين، ولم يعطها أهمية أصحاب النكبة العراقيون، تلك الصراحة في توصيف الوضع السياسي في العراق خلال المداخلة الأخيرة في السابع عشر من مايو الحالي، التي فيها من الأبعاد السياسية ما يتجاوز الانطباعات الشخصية لبلاسخارت ذاتها.
لأول مرة تحدثت بلغة سياسية ناقدة، فاضحة لمشروع نظام الحكم ببغداد، فاقتربت من التوصيف الموضوعي لنزع شرعيته. يبدو أنها استلمت الرسالة بأن تُفصح عن جزء من الأسباب السياسية لكارثة العراق، وهي أحزابه الفاسدة وميليشياتها القاتلة، واستماتتها للهيمنة على السلطة رغم هزيمتها الانتخابية.
الآن اكتشفت بلاسخارت “أن العراق ليس بحاجة إلى حكام مسلحين ينصبون أنفسهم زعماء. وأن دبلوماسية الصواريخ أفعال متهورة مع ما قد يترتب عليها من عواقب مدمرة محتملة، وأن الطبقة السياسية تبيح للجماعات المسلحة حرية إطلاق الصواريخ وتنجح في الإفلات من العقاب. ما الذي يتطلبه الأمر لإدراك أن هذا وضع من المتعذر الدفاع عنه على الإطلاق بينما يمكن للغضب الشعبي المتصاعد أن يندلع في أي لحظة”.
بيان غير معهود ومفاجئ للطبقة السياسية الحاكمة في العراق أطلقته بلاسخارت، وإعلان أممي بإخفاق القادة السياسيين وحكمهم في إدارة البلد وتحول العراق إلى دولة فاشلة. هذا تطور مهم يفتح آفاقا سياسية جديدة أمام شعب العراق وقواه الوطنية.
من الطبيعي أن تتحول بلاسخارت في نظر الميليشيات وأحزابها الولائية بعد هذه الإدانة الأممية من صديقة كادت تضفي لهيمنتهم على سلطة العراق المشروعية الدولية، إلى أداة من أدوات “الولايات المتحدة وإسرائيل”. فخصوم هؤلاء حين يتجاوزون الخطوط الحمراء يصبحون على قوائم معروفة المصير.
المهم بالنسبة إلى العراقيين ليست صحوة بلاسخارت المتأخرة بجانبها الشخصي على أهميتها، فقد تنتهي وظيفتها في العراق ويأتي بديل آخر، إنما طلبهم وسؤالهم المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة ومن خلال مجلس الأمن، في ما إذا كانت مسيرة الثقة الدولية بهذا النظام الفاسد ستتوقف بعد الإعلان الأممي الجديد، لتصبح هذه الخطوة بمثابة سحب عملي لغطاء ألحق الأذى بشعب العراق لتسعة عشر عاما، وللدخول في بداية مشروع جاد لسحب تلك الثقة من زعمائه، ومعاونة الشعب العراقي ودعمه في مشروع خلاصه الجدّي من الاحتلال الإيراني وإزاحة عملائه من السلطة في بغداد؟