واظب شعراء العربية ــ عبر الأجيال التي تلت الرواد النهضويين والحداثيين ــ على امتلاك مرجعيات، بها صنعوا تجاربهم التي تفاوتت في نوعها وغناها وقدرة شاعرها على أن يكتب قصيدته، وهو مستعين بمرجع أو أكثر من المرجعيات بغض النظر عن شكل هذه القصيدة وجنسها، وإذا عرفنا أهمية المرجعيات في تكوين التجربة، أدركنا السبب وراء خفوت كثير من التجارب الشعرية وعدم تميزها ولماذا تبدو الكثرة الكاثرة من الشعراء اليوم بلا كيان واضح وربما بلا تأثير يذكر.ولعل أهمية المرجعية بالنسبة للتجربة الشعرية هي السبب وراء أفول نجم الشعر الذي ابتعد كثيرا عن مرجعيات كان يتغذى عليها ويمتح منها مساراته، هذا فضلا عن سبب آخر منطقي وهو طبيعة مرحلتنا الراهنة التي معها صعد نجم السرد، ليكون له المركز في اهتمامات الكتّاب والنقاد على السواء.والمتفحص في قصائد حسب الشيخ جعفر لا سيما تلك التي كتبها أبان العقدين الستيني والسبعيني سيجد أنها تشكلت من مجموعة مرجعيات، حتى أن كل قصيدة لها مرجعية ما من مجموع مرجعيات ثقافية وشعرية، بها تمرق عن الخط السائد في بناء قصيدة التفعيلة. وهو ما يجعل (القصيدة الحسبية) محطة مهمة في تاريخ القصيدة العربية. التدوير الإيقاعي هو أهم سمة كسمة أسلوبية طغت على القصيدة الحسبية إلى جانب سمات أخرى أسطورية واشتغالات تناصية ومسائل ثيماتية تتنوع معطياتها وبأبعاد جمالية كثيرة. وعلى الرغم من هذا الاهتمام بالقصيدة الحسبية؛ فإن هناك تموضعات لا تزال متدارية وغير منقب عنها نقديا لاسيما تلك التي تتعلق بالمرجعيات، وهي بمثابة مراهنة نقدية تتحدى القراء قبل أن تكون هي مراهنة الشاعر نفسه مع قصيدته على التفوق الإبداعي.
وربما ظلت بعض مرجعيات القصيدة الحسبية غائبة لأن الشاعر لم يورد لها ذكرا في هوامش قصائده وإحالاته. وليس معنى هذا الغياب أن الشاعر لم يكن أمينا في التدليل على المرجعيات ومحمولاتها التناصية كلها، بل لأن تغلغل البعد المرجعي فيها كان عاما شاملا، فلم تخل منه أية قصيدة من قصائده، ناهيك عن حقيقة إبداعية وهي أن استدعاء المرجعيات بالنسبة لأي شاعر هو عمل سايكولوجي قد يكون الشاعر واعيا له بقصدية وقد لا يكون واعيا، فيسترسل من الذاكرة استرسالا عفويا وبمرونة تامة. ولا شك أن الشاعر حسب الشيخ جعفر ــ في الهوامش التي رافقت دواوينه الأربعة (نخلة الله والطائر الخشبي وزيارة السيدة السومرية وعبر الحائط في المرآة) ــــ لم يكن معنيا بكشف مرجعياته للقراء بقدر ما كان حريصا على تعريفهم بتناصاته، توكيدا لخطه الذي فيه التناص واحد من التقانات الموظفة في قصيدته وليس كلها، مانحا إياهم زادا ثقافيا تتضاعف جمالياته بتعدد تناصاته.
وإذا كان التناص تقانة عرفها الشعراء عموما والحداثيون منهم تحديدا؛ فإن ميزة الشاعر جعفر هو أنه لم يكن مراهنا عليها أسلوبا شعريا وإنما مراهنته انطوت على شيء هو أبعد من التقنين وأسبق من البناء يتصل بالستراتيجية الشعرية عموما التي فيها القصيدة كون فطري ما قبلي وكيان مادي بعدي وانتاج ما بعد بعدي، ومن ثم لا اقتصار في الاشتغال فيها على النص كاستدعاءات شكلية، ينغلق الابتكار فيها على المضمون الفكري؛ بل هي عملية هضم ما قبل كتابية وإعادة إنتاج كتابية وبرؤية ما بعد قرائية.وإذا كانت القصيدة الحسبية في بعدها البنائي متأثرة بعض الشيء بالقصيدة السيّابية والقصيدة الأدونيسية، فإنها في بُعدها ما قبل البنائي متميزة بستراتيجيتها المرجعية الهاضمة للتاريخ على اختلاف أزمنته والمتعاطية للجغرافيا على امتدادها المكاني، منفلتة من طوق التناص الذي هو مولِّد من مولدات البناء الشعري إلى رحاب المرجع الذي فيه موئل الإلهام الشعري كله.
ويظل التناص تقانة اشتغل عليها الشاعر حسب الشيخ جعفر بوعي وقصدية، دللت عليهما المسارد التي وضعها في نهاية أعماله الشعرية 1964- 1975. وهو ما لا يستطيعه الشاعر مع المرجعية التي تتعدى مستوى الاشتغال إلى مستويات سابقة له تتعلق بالاستعداد الفطري للإلهام والتجريب. وإذا كان الشاعر قد شرح في المسارد الثلاثة ما رجع إليه من قصة أو بيت أو حكاية أو مثل أو تاريخ فليس لإدراكه أن قارئه لن يستدل على متناصاته أو لأن فهم القصيدة يقتضي منه أن يؤشر الى الاستدعاءات النصية من نصوص أخرى؛ بل لأن في الاستدراك على المتن الشعري بهامش ما يدلل على تمام القصيدة في بعديها الفكري والبنائي. فإذا توغل في سومر وأكد وتجول في روسيا وإذا استدعى أبا نواس وأبا العلاء وفيدياس واوديسيوس وإذا ما اشتبك مع السياسة والدين والميثولوجيا والأدب، فإنه في ذلك كله إنما يشتبك مع متن هو عبارة عن عواطف الأنا وأوجاعها الخاصة، وهامش هو عبارة عن إحالات وتناصات، صانعاً من المتن والهامش منظومته المرجعية الكلية التي تعتمل شعريا في داخله فكرا وعملا.
وما من شك بعد ذلك أن تكون المرجعية أوسع من التناص وأنفذ، كونها تتجاوز الاستدعاء والاستحضار إلى التشرب ثم الغياب، لا كبنية عميقة وإنما كفاعلية إدراكية لا واعية فيها المتشرب المهضوم والمعاد هضمه شيئان مختلفان تماما.. فتتوغل المرجعية غيابيا داخل القصيدة بينما الشاعر نفسه لا يحضره توغلها ولا هو مدرك لاعتمال آلياتها داخله. ومن ثم لا قصيدة توصف بأنها حسبية إلا هي متناصة مع غيرها أو هي متعدية النصية ومنصهرة في سلسلة مرجعية، فيها التجديد والتأصيل كامنان في الكيفية التي بها يُعاد إنتاج تلك المعاني بأشكال ابتداعية شتى.
ومن مميزات القصيدة الحسبية تجريبها الشعري الذي فيه تحتل الدلالة المركز في المراهنة على الشكل الفني حيناً وعلى المألوف الشعري حينا آخر، كنوع من التمرد على ما كان الرواد قد تمردوا عليه حين استحدثوا موضوعات أفادوا فيها من الشعر العالمي. ومن يعد إلى دواوين حسب الشيخ جعفر في مرحلته الأولى المتمثلة بنخلة الله والطائر الخشبي وزيارة السيدة السومرية وعبر الحائط في المرآة وكذلك كتاباته في المرحلة الثانية المتمثلة بديواني (كران البور) و(الفراشة والعكاز)، فسيتاكد له أن التجريب ظل مسارا يرافق الشاعر مراهنا عليه طوال عقود، ولم يتنازل عن هذا الرهان حتى أنجز ما كان يتطلع إلى انجازه وهو كتابة قصيدة تفعيلة على نمط السونيت.
وإذا كان لكل مجرب أن يمهد لما يريد التجريب فيه، فإنَّ قصيدة المرفأ المقفر وتذكار امسية واللقائق العائدة والنهر هي التمهيد الذي به اختط حسب الشيخ جعفر طريقه الشعري. وقد أعانته جملة عوامل منها: موهبته وفطنته وسمو ذائقته، وهي خصائص ما أن تتوفر في الشاعر حتى يصبح متفردا ومميزا في عالم الشعر. ومنها اتقانه اللغة الروسية مكنّه من الاطلاع على الأرث الشعري الروسي لبوشيكن وليرمنتوف ومايكوفسكي ويسينين وتورجنيف واخماتوفا والكساندر بلوك وآخرين.وكذلك اطلع على ما ترجم إلى الروسية من أمهات القصائد الانجليزية الخالدة وفي مقدمتها سونتات شكسبير وروائع بليك وكولدرج وورزدوروث. وكان من نتائج التأثر بهؤلاء الشعراء جميعا أن غدت الروح الرومانسية غالبة على قصائده.. رحم الله حسب الشيخ جعفر شاعر النخلة الذي أغدق على الشعر من روحه فكافأه الشعر قريحة قل نظيرها.