بغداد/شبكة أخبار العراق- تجد المرجعية الشيعية العليا في العراق نفسها في موقف دقيق، مشمولة بالمأزق الذي آلت إليه الأوضاع في البلد مع تمادي حركة الاحتجاج في التوسّع وتطوّرها إلى حالة من العصيان المدني الهادف إلى إسقاط النظام القائم.واتّهم معتمد المرجعية الشيخ عبدالمهدي الكربلائي خلال خطبة صلاة الجمعة يوم 7/11/2019 أمام مجموعة من المصلين في صحن الإمام الحسين بكربلاء أطرافا خارجية وداخلية باستغلال الاحتجاجات بالعراق لتحقيق مآربها.وحمل كلام الكربلائي تلميحات قوية تقترب من نظرية المؤامرة التي تطرحها أطراف رئيسية في السلطة كتفسير للمدى الذي بلغته حركة الاحتجاج من زخم وقوّة، وأيضا كتبرير مبطّن للإفراط في استخدام القوّة في مواجهة المحتجّين ما أدّى إلى حدّ الآن إلى سقوط المئات من القتلى والآلاف من الجرحى في صفوف هؤلاء.
ورغم أن المرجعية التي يمثّلها علي السيستاني حرصت في تعاطيها مع مختلف تحركات الشارع التي اكتسبت خلال السنوات الماضية زخما جديدا بلغ مداه خلال الاحتجاجات الحالية، على تبنّي موقف إيجابي داعم للمطالب الاجتماعية والاقتصادية للمحتجّين وحثّ السلطات على الاستجابة لتلك المطالب والإسراع بعملية الإصلاح، إلاّ أنّ بروز موجة رفض النظام القائم برمّته والدعوة إلى إسقاطه، عسّر على المرجعية الشيعية مواصلة لعبة مسك العصا من وسطها التي تتيح لها ممارسة دور الأبوّة للجميع من منطلقات دينية.
ويقول متابعون للشأن العراقي إنّ مرجعية النجف تظلّ أبا روحيا للنظام القائم في العراق على حكم الأحزاب الشيعية، وذات دور في الحياة السياسية، وهي لا تستطيع التمادي في “دعمها” للمحتجّين وتفهّمها لمشروعية مطالبهم إلى النقطة التي يطالبون فيها بإسقاط النظام، حيث ستكون متضرّرة من ذلك بشكل مباشر. فعندما غزا تنظيم داعش أجزاء واسعة من العراق وهدّد العاصمة بغداد صيف سنة 2014، أقامت مرجعية النجف الدليل القاطع على قدرتها على ترجمة سلطتها الروحية إلى فعل على الأرض عسكري وسياسي.
وبمجرّد فتوى من السيستاني تأسس جيش رديف من المتطوّعين وعناصر الميليشيات الشيعية حمل اسم الحشد الشعبي وكان له دور حاسم في مواجهة داعش واستعادة الأراضي من سيطرته.ولاحقا تحوّل الحشد أيضا إلى قوة سياسية لها تمثيل تحت قبّة البرلمان بكتلة وازنة ساهمت بفعالية في اختيار عادل عبدالمهدي رئيسا للوزراء وفي تشكيل حكومته.ولا يبدو واردا أن تدعم المرجعية الشيعية في العراق إسقاط الحكومة، لكنّها ستكون أكثر رفضا لإسقاط النظام برمّته وتغيير طبيعة الحكم وأسسه.
وقال الكربلائي في خطبته “إن هناك أطرافا وجهات خارجية وداخلية كان لها دور في ما أصاب العراق من أذى وقمع وتنكيل وهي قد تسعى اليوم لاستغلال الحركة الجماهيرية الجارية لتنفيذ مآربها”.ويقترب كلام الكربلائي مما ذهب إليه المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي من اعتباره احتجاجات العراق ولبنان مجرّد مؤامرة خارجية، وهو الموقف الذي ردّده أيضا قادة أحزاب وميليشيات شيعية عراقية.واتّهم قيس الخزعلي زعيم ميليشيا عصائب أهل الحق إحدى أشرس الميليشيات وأكثرها ارتباطا بالحرس الثوري الإيراني في مقابلة مع المحطة الفضائية التابعة للميليشيا ذاتها “أطرافا خارجية بالمشاركة في محاولة إثارة الفوضى والاقتتال الداخلي بالعراق”.
وذهب أبعد من ذلك باتهامه “إحدى الرئاسات الثلاث إضافة إلى قائد كبير لأحد الأجهزة الأمنية العراقية بالمشاركة في المؤامرة”. وغير بعيد عن هذا التوصيف لما يجري في العراق من احتجاجات، قال الكربلائي “ينبغي أن يكون المتظاهرون على حذر من هذه التدخلات الخارجية حتى لا يختل جمعهم”.ومع ذلك فقد استعاد معتمد المرجعية الشيعية التكتيك القائم على تصدير موقف إيجابي متفهّما المحتجّين ومطالبهم قائلا إنّ “أمام القوى السياسية الممسكة بالسلطة فرصة جديدة للاستجابة لمطالب المتظاهرين تنفَّذ بمدة زمنية ولا يجوز المزيد من المماطلة والتسويف لما له من مخاطر جمّة”.واعتبر أنّ “التظاهر السلمي حق لكل عراقي بالغ وكامل يعبر عن رأيه ويطالب بحقه ممّن شارك أو لم يشارك وليس لأحد أن يلزم الآخر بالمشاركة في المظاهرات”.وأشار إلى أن سلمية المظاهرات الاحتجاجية تحظى بأهمية كبيرة والمسؤولية تقع على القوات الأمنية في تجنب استخدام العنف المفرط في التعامل مع المحتجين دون مسوّغ.ورغم أنّ القوى المشاركة في حكم العراق تعبّر باستمرار عن احترامها الشديد لتوجيهات المرجعية، إلاّ أن السلطات العراقية تتمادى عمليا في قمع المحتجّين.
وذكرت منظمة هيومن رايتس ووتش، 7/11/2019، أن الرصاص الحي لا يزال يستخدم في التصدي للاحتجاجات بالعراق، وأن عبوات الغاز المسيل للدموع التي تُلقى مباشرة على المحتجين بدلا من قذفها فوقهم تسببت في مقتل ما لا يقل عن 16 شخصا.ولا يبدو أنّ للعنف المستخدم ضدّ المحتجّين تأثيرا على إصرارهم على مواصلة احتجاجاتهم. واحتشد الجمعة آلاف المحتجين في ثالث أسبوع منذ تجدّد الحراك الاحتجاجي في الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي.
وقتل الخميس يوم /6/11/2019 نحو 13 متظاهرا على الأقل، ستة منهم في العاصمة بغداد وسبعة في البصرة حيث تجددت المواجهات بين المحتجين والقوات الأمنية ما أجبر السلطات على إعادة إغلاق ميناء أم قصر بعد ساعات قليلة من افتتاحه.مرجعية النجف تظل أبا روحيا للنظام القائم في العراق على حكم الأحزاب الشيعية ومستفيدة من استمرار العملية السياسية ومن جهة أخرى لا يزال وصول الموظفين إلى الدوائر الرسمية والمنشآت النفطية متعذرا بسبب الإضرابات العامة، فيما لا يزال نحو 100 ألف برميل نفطي مخصصة للتصدير عالقة في شمال البلاد لعدم تمكن الشاحنات من الوصول إلى مناطق جنوب البلاد.
ولا تزال السلطة التي تسيطر عليها أحزاب مقربة من إيران صامدة بوجه الاحتجاجات الشعبية. وقال متظاهر من شيوخ عشائر بغداد لوكالة فرانس برس إنّ “عادل عبدالمهدي يرى أن كرسيه أغلى من دماء العراقيين”.وتواصل القوات الأمنية في بغداد استخدام قنابل الغاز المسيل للدموع وأحيانا الرصاص الحي بأعيرة ثقيلة، إضافة إلى القنابل الصوتية التي تهز العاصمة حتى وقت متأخر من الليل، مذكرة بأصوات انفجارات السيارات المفخخة التي حفظها البغداديون على مدى الأعوام الماضية.
وقالت منظّمة العفو الدوليّة إن القنابل المسيلة للدّموع التي تستخدمها القوات العراقية يبلغ وزنها 10 أضعاف وزن عبوات الغاز المسيل للدموع التي تُستخدم عادة، وهي مصنوعة في بلغاريا وصربيا وإيران، وفق المنظمة نفسها.وأعلنت الأمم المتحدة أن تلك القنابل أدت إلى مقتل متظاهرين من خلال اختراق جماجمهم وصدورهم. ويندد الحقوقيون أيضا بعمليات الاعتقال والاختطاف وتهديد ناشطين وأطباء من قبل جهات تؤكد الحكومة حتى الآن أنها مجهولة. وقبل أيام اغتيل ناشطان برصاص مجهولين في العمارة بجنوب العراق، بحسب مصادر أمنية.وتركز غضب المتظاهرين في العراق مؤخرا على إيران صاحبة النفوذ الواسع والدور الكبير في العراق. وما أجج غضب المحتجين هي الزيارات المتكررة لقائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني اللواء قاسم سليماني للعراق، وتصريحات المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية علي خامنئي عن وجود “مخططات من الأعداء لإثارة الفوضى وتقويض الأمن في بعض دول المنطقة”.