تتحكم في سلوك المثقف أساسا – حسبما أرى – منظومتان: عقلية وأخلاقية او بعبارة أخرى المعرفة واللياقة. وهناك ترابط عضوي بين المنظومتين إلا أن هذا الترابط قد يكون عرضة للخلل والافتراق استجابة لظرف موضوعي او علة (سيكولوجية) مرضية.. ولنا من تاريخنا مثابات راكزة تفصح عن نواح سلوكية ايجابية في الممارسة الإبداعية صناعة وتلقيا..كانت العرب إذا نبغ فيها شاعر احتفلت وأقامت طقوس الفرح، واشاعت الخبر، والنبوغ هذا عن قصيدة قالها تحمل الخصائص الفنية والضوابط التقليدية المعروفة التي تعبر عن وجود الموهبة وقدرة التعبير عنها.. وهذا دليل ساطع على أهمية الفن والإبداع في حياة العربي الذي ينسحب على كون الشاعر يحظى بالاحترام من جهة الرأي العام، ومن النخبة المهتمة بتعاطي الفنون الأدبية بدرجة خاصة.في يومنا هذا لا يأخذ الأمر تلك الأهمية ولا ذاك الاحتفاء، وقد يحدث العكس، اذ لم يجد (النابغ) غير الهمز واللمز والرأي المبطن بالاستخفاف من هذا أو ذاك، بعد أن أصبحت الممارسة الأدبية على سعة لا يمكن الإحاطة بها، وقد اختلط الغث بالسمين والموهبة بالادّعاء وترك الأمر على ما هو عليه، فهو لا يهم أحدا حتى ممن يعول عليهم الفحص والفرز والتقويم.. مع وجود نوادٍ فاعلة للنقد والشعر والسرد .. ومن ناحية اخرى لم يعد الفن بجميع أشكاله ذا استجابة معتبرة من الرأي العام.. حتى أن الفن في مجتمع يعاني من مشاكل مزمنة بات ضربا من العبث وإضاعة الوقت، ذلك ما عملت على تسويقه الانظمة الاستبدادية / الثيوقراطية دائما وبعد (2003) على وجه التخصيص.. والذي يهمنا هنا سلوكيات النخب الثقافية، فنقرأ المشهد قراءة تتقصى من التشوهات ما يستدعي ضبطه وإدانته والحد من تأثيره السلبي على المشهد الثقافي الذي تعقد عليه الآمال في تهذيب الواقع..إن وراء الخلل الثقافي (أنوات) تتصرف بمزاجية طبقية مغلفة بغلاف براق وشعارات دعائية للظهور بمظهر الحرص على العملية الابداعية، لكن الحقيقة تكمن في تسرب اللاثقافي الى الثقافي في سلوكيات أنانية تعمل في الخفاء على إزاحة الآخر، وعدم الاصغاء اليه أصلا، لا لكونه غير مؤهل إبداعيا فهذا ليس مهما في نظر هذا (البعض)، المهم أن يحافظ النخبوي على نخبويته ضد أية محاولة لمزاحمته على ما كسبه من هيمنة.. فاذا (نبغ) شاعر أو أديب في مجالات الأدب قد يلقى ترحيبا او تشجيعا من شخص او جهة ما، ولكنه لا يحظى من (النخبة) ومؤسساتها بشيء، لعدم وجود سياقات عمل مرسومة للتعامل مع (القادمين الجدد) .. فهم بواقع الأمر غير مرحب بهم من (البعض) وإن أعلن هذا البعض عن ترحيبه بضرورة المجاملة. والمجاملة – كما أعتقد – سلوك من شأنه بناء علاقات اجتماعية، ولكنه تقويض للأسس الإبداعية المؤسسة على المصارحة والموضوعية في قول الحقيقة، وهذا بعض ما يحدث الآن..المبدع الحقيقي لا يريد أن تحتفل به (القبيلة) التي ينتمي اليها ثقافيا! إنه يريد أن يبلغ رسالته وأن يتأكد من أن هناك من تلقاها، فهو ينتظر قولا فيها لا ثناء ولا شكورا.. وإلا ما هو دور المؤسسة التي ينتمي اليها في ترصين عمله وفحص وتطوير تجربته؟؛ لذا هناك إبداع يذبل ويموت.. وهناك من يجد من يرعاه بضربة حظ او لأنه من طرف صاحب حظ وبخت!، وهناك من يجد من يحاول قمعه لأنه اخترق خط الهامش في تطلعه الى (المتن) المتعالي .