في الحالتين الطبيعيّة والصحّيّة لا يمكن تصوّر وجود رغبة بشريّة جادّة في التنقّل للعيش في غير الأماكن التي ولد، وترعرع فيها الإنسان، لكن يبدو أنّ الحروب والترهيب والفقر والجوع قد تدفع الإنسان للهروب من كلّ ذكرياته بحثاً عن قطعة ارض يحفظ عليها كرامته وحياته وتضمن مستقبله، ويطمئن على روحه وفكره!
هذه الهجرة الاضطراريّة، أو الضياع، أو الهروب، أو الموت البطيء تسمّى في أدبيات الأمم المتّحدة باللّجوء!
وفي العشرين من شهر حزيران/ يونيو من كلّ عام يحتفل العالم بيوم اللاجئ العالميّ!
واللاجئ، بحسب تعريف الأمم المتّحدة، هو الشخص الذي يطلب اللجوء والإقامة في بلد آخر غير موطنه، لأسباب كثيرة منها الحرب، الإرهاب والفقر.
وبمناسبة يوم اللاجئ ذكر (المرصد الأورومتوسطيّ) أنّ إحصاءات وزارة التخطيـط العـراقيّة أكّدت أنّ ” عـدد العراقيّيـن الهاربين خارج العراق أكثر من أربعة ملايين، مشرّدين في العديد من الدول العربيّة والأوروبيّة”!
الكثير من النازحين العراقيّين في الخارج، وبالذات أولئك الذين لم يفضلوا اللّجوء في أوروبّا وأمريكا، أو لم يحصلوا عليه، يعيشون في أوضاع مُزرية، وأقلّها صعوبات الحصول على تصاريح الإقامة والعمل، وتوفير لقمة العيش بكرامة وطمأنينة!
وفي بداية شباط/ فبراير 2020 ذكرت بعثة الأمم المتّحدة لمساعدة العراق “يونامي”، أنّ ” الفوضى الأمنيّة والإداريّة تسبّبت بنزوح قرابة ستة ملايين عراقيّ داخل البلاد، عاد معظمهم إلى منازلهم، في حين لا يزال نحو 250 ألفاً يقطنون في المخيّمات، وأنّ هناك حوالي (45) ألف طفل في المخيمات يفتقدون إلى وثائق ثبوتيّة شخصيّة”.
وبهذا نجد أنّ حكومات العراق المتعاقبة لم تنشغل برعاية ومتابعة أوضاع المهجرين في الخارج، وكأنّها تخلّصت من هَمّهم، وكذلك لم تتمكن من تقديم خدمات مقبولة للنازحين في الداخل، بالذات في الجانبين الصحّيّ والتعليميّ، وهذا يعني ضياع مصير ومستقبل عشرات آلاف الأطفال والشباب والعوائل!
ورغم هذه المرارة التي يعاني منها اللاجئون والنازحون في الخارج والداخل نجد أنّ هنالك مئات آلاف العراقيّين في الداخل يتمنّون الهروب من واقعهم المرير المرعب، وبالذات مع تفشي فيروس كورونا، وتنمُّر المليشيات في البلاد!
واليوم هنالك تطورات خطيرة في العراق تتمثّل في ضمور، أو فشل النظام الصحّيّ في مواجهة فيروس كورونا، بعد دخول الفيروس شهره الخامس، وتسجيل قرابة (40) ألف إصابة، ونحو 1500 وفاة، وقد أعلنت بعض المستشفيات، ومنها مستشفى الحسين في مدينة الناصرية، عجزها عن مواجهة الفيروس!
وبالمجمل فقد أثبتت مرحلة كورونا غياب التخطيط الحكوميّ، وبالذات في القطاعات الصحّيّة، لدرجة أنّ قائد مكافحة الإرهاب عبد الوهاب الساعدي استجاب أمس الخميس لنداء مستشفى الناصرية لتزويدها بالأوكسجين وبقيّة الاحتياجات، وكأنّ البلاد في حالة طوارئ، ولا يوجد ذكر لدور الحكومة ووزارة الصحّة!
هذه الفوضى الإداريّة والماليّة دفعت مجلس النوّاب العراقيّ الأربعاء الماضي لتخويل رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي للاقتراض الداخليّ والخارجيّ، في خطوة تؤكّد وجود أزمة ماليّة حادّة، وبالذات مع تأكيد حكومة الكاظمي أنّها استلمت الخزينة وبداخلها 300 مليون دولار فقط!
حكومة بغداد بحاجة الآن لعشرات مليارات الدولارات كموازنة تشغيليّة، وقد كشف رئيس اللجنة الماليّة في مجلس النوّاب، هيثم الجبوري، الأربعاء، أنّ “المجموع الذي يتوفّر في خزينة الحكومة الآن هو 17 مليار دولار، فيما تحتاج 59 مليار دولار كنفقات تشغيليّة، وهذا يعني وجود عجز بـ 42 مليار بميزانيّة الدولة، وأنّ 85% من القروض ستذهب للرواتب والنفقات”!
ومع تنامي الخراب الماليّ والصحّيّ توجد في العراق الآن عشرات المليشيات المتفلّتة التي يمكن أن تنفجر ضدّ (الدولة) في أيّ لحظة بدليل ما جرى فجر اليوم الجمعة بعد اعتقال قوّات مكافحة الإرهاب لعناصر من مليشيات الحشد الشعبيّ ببغداد لمحاولتهم ضرب مطار بغداد الدولي، حيث أعلنت العديد من المليشيات حالة (النفير العامّ) لنصرة رفاقهم في السلاح!
فهل تنمّر المليشيات حالة صحّيّة، وهل هم فوق القانون، أم دولة داخل الدولة العراقيّة؟
وهكذا يظهر جليّاً أنّ الضياع والغموض والحيرة المركّبة تغلّف الوطن والمواطن، وكلّها دلائل على الفشل المتراكم في إدارة الدولة، وأنّ غالبيّة منْ هم في داخل الوطن وخارجه يعانون من سموم وتبعات تلك الحيرة!
الخلاص من حيرة الوطن والمواطن، لا يكون بالهروب نحو الاقتراض، بل يكون بحسن إدارة الدولة، وتقطيع أجنحة الفاسدين والمليشيات، ورعاية أبناء الوطن، وإلا فالاقتراض، ربّما، سيفتح الباب لجولة جديدة من الفساد الماليّ!
فمتى سنتعلّم سياسة نشر الراحة الفكريّة، والأمن العسكريّ والغذائيّ والحياتيّ بين المواطنين؟