يًقال إن الدستور العراقي الجديد الذي وافق العراقيون على العمل به عام 2005 بتشجيع من المرجعية الدينية لم يكتبه عراقيون وإن كانوا قد صادقوا عليه. وفي كل الأحوال فإن العراقيين الذين تم اختيارهم لعضوية لجنة كتابة ذلك الدستور ما كان لهم أن يعترضوا على فقراته لا لأنهم كانوا خاضعين لإرادة المحتل الأميركي بسبب تبعيتهم له وحسب، بل وأيضا لأن ما ورد فيه من مواد هي أشبه بالألغام جاءت منسجمة مع رغبتهم في ألاّ تقوم قائمة لدولة في العراق.غير أن واحدة من تلك المواد تؤسس لعراق مهدد بالتفكك من غير أن يكون قادرا على الدفاع عن وحدته وسيادته على أراضيه بسبب ضعف قواته العسكرية التي حلت محلها ميليشيات الحشد الشعبي بمهماتها التي تنحصر في حماية المذهب الذي هو تعبير ملطف عن الدفاع عن المصالح الإيرانية.
تلك المادة التي جاءت تحت عنوان “المناطق المتنازع عليها” يُقصد بها اعتراف قانوني بأن هناك دولة داخل دولة العراق يحق لها أن تستعيد مناطق هي جزء من أراضيها. “كردستان” هي تلك الدولة بعد أن تم حذف عبارة “شمال العراق” التي كانت تضع المدن التي يقيم فيها الأكراد ضمن خارطة العراق بحيث تخضع للسلطة السياسية التي تحكم في بغداد.وإذا ما كانت تلك المنطقة قد تمتعت بالاستقلال النسبي منذ أن فرض قرار حظر الطيران العراقي فوقها عام 1991 فإنها بعد 2003 وهو عام الاحتلال الأميركي انفصلت بشكل كامل عن الكيان السياسي العراقي. لها رئيسها وعلمها وسفاراتها وبرلمانها وحكومتها وفضاؤها وأجهزة أمنها.
هناك صلة واحدة تربطها بالعراق تكمن في حصتها من الموازنة السنوية التي هي عبارة عن إيرادات النفط. فالعراق وفق تلك العلاقة يموّل دولة كانت قد انفصلت عنه. دولة تقع على شماله ولم تعد مدنها جزءا من شماله.لم يكن الأكراد في حاجة إلى استفتاء عام 2017 ليؤكدوا انفصالهم عن العراق. كان ذلك خطأ ارتكبه مسعود بارزاني رغبة منه في الاستعراض. وهو يعرف أن دولته المستقلة تماما لن تقوى على العيش من غير التمويل العراقي الذي هو التعبير الأمثل عن السخرية السياسية. فليست هناك دولة في التاريخ قد موّلت دولة كانت قد انفصلت عنها.
ولكن ذلك ما أراده الأميركان وهو الثمن الذي يجب أن يدفعه العراق لقاء مساهمة الأكراد في تيسير عملية الغزو الأميركي من خلال توفير مواقع آمنة للقوات الأميركية المهاجمة.يدفع العراق منذ أكثر من عشرين سنة ثمن احتلاله للأطراف التي ساهمت في ذلك الاحتلال. غير أن ذلك كله لا يشكل بالنسبة إلى الزعامات الكردية شيئا مقابل ما صار يُسمى بـ”استرداد” الأراضي التاريخية للأكراد لكي تُضم إلى “دولة كردستان”. تلك هي المناطق المتنازع عليها التي تشكل أكثر من نصف مساحة العراق غير الصحراوي. بمعنى أن العراق سيتحول إلى صحراء لو استولى الأكراد على تلك المناطق.
ومن المؤكد أن العراقيين الذين بصموا بأصابعهم الملوثة بالحبر البنفسجي على الدستور سيفجعون لو اطّلعوا على القائمة التي تضم تلك المناطق. كذبة تمتد من سنجار إلى جلولاء.تماطل الأحزاب الشيعية الحاكمة في التفاوض على تسليم المناطق المتنازع عليها إلى الأكراد. لا لأنها تخشى أن تقع في شبه خيانة للعراق التاريخي وهو ما لا تخشاه، بل لأن الأوامر من إيران لم تصدر بعد. وهي لن تصدر لأن إيران لا ترغب في قيام دولة كردية شمال العراق، بل تتماهى مع رغبة أميركية في إقامة إقليم كردي مستقل فقط.
ذلك الإقليم من وجهة نظر إيران ينبغي ألاّ يتحول إلى دولة ففي قيامه تحريض لأكرادها على الانضمام إلى الحركات التي تعتبرها إرهابية والتي تسعى إلى إقامة وطن قومي، هو جزء من كردستان الكبرى.العراق إذاً هو المختبر بالنسبة إلى إيران وكذلك بالنسبة إلى تركيا. وهو ما يجعل تصرفات حكومته محط أنظار الدولتين. لذلك سيكون من العسير على حكومته أن تنفّذ أجندتها في التخلي عن أراضيه والتي بدأتها بالتخلي عن كركوك.سيكون من الصعب على الحكومة العراقية أن تأمر ميليشيات الحشد الشعبي بالانسحاب من مدن كثيرة هي موقع خلاف، وبالأخص تلك المدن التي تقع في محاذاة الحدود الإيرانية. لقد أصبحت تلك المدن مناطق إيرانية خالصة، حتى رئيس الوزراء العراقي لن يتمكن من الدخول إليها.