إذا استعرنا التوصيف الموضوعي لعهد ما بعد 2003 في العراق، يمكن إرجاعه إلى مرحلتين: الأولى مرحلة الاحتلال العسكري الأميركي المباشر 2003 – 2011، والثانية خروج قوات الاحتلال رسمياً من العراق منذ عام 2012 إلى حد الآن.
رغم الغطاء الإعلامي الذي قدمته الآلة الإعلامية الأميركية التي وظفت الملايين من الدولارات لتحسين صورة عملائها داخل العراق من أجل لياقة سياسية عادة لم تهتم بها الإدارات الأميركية منذ فيتنام. لكن هذا الغطاء تمزّق منذ الأيام الأولى للاحتلال. كانت الصفة الديمقراطية لهذا النظام أولى حلقات مسلسل الكذب الذي اغتبطت به القيادات الحزبية الشيعية ومعها الكردية والكتل السنية الطارئة. الواقع كشف بأن لا مكان لشعب العراق في طبخة النظام الجديد، الذي قاومه عسكرياً منذ الساعات الأولى حين وطأت أقدامه الأرض العراقية.
للأسف الأحزاب استعارت ما سمُي “بالتقيّة”، وهي لا علاقة لها بأصالة المكّون الشيعي العراقي الأصيل، فقد استعارتها من التراث الفارسي، فكان الإذلال والخنوع للحاكم الأميركي بول بريمر صورة غريبة عن صفات العراقيين الذي لديهم تراث قريب من المقاومة للمحتل الأجنبي. لعل الإهانات التي أعلنها بريمر في كتابه “عام قضيته في العراق” كشفت مستوى الإذلال من أجل السلطة.
لو امتلكت تلك الأحزاب، خاصة الشيعية لأن للأكراد خصوصية قومية، الحد الأدنى من أولويات الاهتمام بقضايا الشعب، وتوفرت لديها الحدود الدنيا من هوامش المسؤولية الوطنية والأخلاقية تجاه من ادّعوا الدفاع عن “مظلوميتهم” المزعومة لباشروا حتى في ظل الاحتلال العسكري الأميركي باستثمار الثقل الأميركي الذي كان يبشّر بالزعامة الوحيدة للعالم من خلال العراق، وحوّلوا تلك المليارات من الدولارات المتدفقة إلى مشاريع بناء وإعادة إعمار استثنائية، لكي تحمل تلك الأحزاب الحدود الدنيا من الوفاء لشعب العراق ومن أدنى تبريرات ما حصل لاحقاً.
بدلاً من ذلك كانت مهمة تلك الأحزاب منذ الوهلة الأولى قضيتين رئيسيتين: الأولى ترتيب مواقع القوى بين أحزاب السلطة الجديدة وداخلها، كانوا واثقين بأن قادة الاحتلال الأميركي غير مكترثين بهموم شعب العراق وحاجاته في الحياة الكريمة، لهذا انشغلوا بتوفير طرق تثبيت دعائم الحكم الجديد سياسياً وأساليبها وفق أدوات القوة التي أخذت تكبر أحجامها يوماً بعد آخر، خصوصاً بعد الدعم اللوجستي من قبل طهران خامنئي.
المهمة الجيوسياسية الثانية كانت مستحضرة منذ وقت مبكر قبل الاحتلال، وهي طائفية سياسية خارجة من منطلقات تلك الأحزاب “الإسلامية”، هيأ لها الاحتلال بحل الجيش الوطني العراقي وقانون اجتثاث البعث هدفها لتصفية الساحة العراقية الجديدة من أيّ محاولات منظمة أو عفوية لرفض الواقع السياسي الجديد، ابتدعت زوراً وبطلاناً قصة “دفاع العرب السنة” عن نظام سياسي انتهى عهده بالاحتلال الأميركي.
كانت إستراتيجية لا تمتّ بصلة إلى الحدود الدنيا من الاختلاف والاجتهاد في المواقف العامة إلى تنفيذ مشروع تصفيات طائفي ساهم فيه الأكراد بتواطئهم المصلحي في ظل صمت ورضا من أشخاص ادّعوا زوراً أنهم يمثلون السنة حتى قبل الانتخابات المُدجنّة التي حصلت بعد كتابة الدستور الملغوم عام 2005.
انتظر حزبا الدعوة ومجلس الحكيم بلهفة حلول أول انتخابات لما سمّي بالجمعية الوطنية الانتقالية عام 2005، التي سن برنامجها الحاكم المدني الأميركي، كانت بداية وحشية بتولي إبراهيم الجعفري من حيث تحويل الحفاظ على السلطة إلى تنفيذ مشروع دموي في العراق، تبعه نوري المالكي بعد انتخابات 2006 بصفحات أكثر قساوة لثماني سنين متواصلة.
مرة أخرى تكشف تلك الأحزاب ابتعادها عن هموم الشعب، وإلا فبأيّ من المقاييس، حتى وإن كانت طائفية، تتم عملية محو الطائفة السنية ووضعها في خانة الخصوم والأعداء التي تشكل إلى جانب الطائفة الشيعية هوية العراق العربي.
مرحلة ما بعد خروج قوات الاحتلال 2012 فتحت الأبواب أمام مشروع الهيمنة الإيرانية المرتبطة بالميليشيات الميدانية المسلحة، حيث وجدت طهران أن العراق هو الحديقة الخلفية والأمامية لحمايتها وتدفق موارده الطبيعية والمالية لصالح اقتصادها. أصبحت هذه الأحزاب في ظروف أكثر مثالية في الابتعاد عن هموم الشعب وحاجاته وعدم التخلي عن سياسة القمع الطائفي، ثم دخلت بوقت مبكر في عالم النهب المالي والفساد السياسي والإداري بعد عالم الخيانة والعمالة للأجنبي.
من الطبيعي أن تحصل الاحتجاجات الشعبية جغرافياً في المناطق ذات الأغلبية العربية السنية ليس لنقص في الخدمات أو البطالة، أو لدوافع طائفية بل بسبب المظالم القاسية في تغييب شباب تلك المناطق وقتله وتهجير أهلها من مساكنهم بلا وجه حق، لا تختلف في آلامها عن عمليات المحتل العنصري الصهيوني ضد أبناء شعب فلسطين، هذا تشبيه ليست فيه مبالغة.
لم تتوقف سياسة القتل والتجويع عند وقائع الحرب الطائفية عام 2006 وعمليات تفجير المساجد وقتل مريديها وأئمتها بعد التفجير المدبر داعشياً وإيرانيا لمرقد الإمامين العسكريين في مدينة سامراء، لأن دوافع الحفاظ على سلطة لا تملك عمقاً شعبياً يتطلب سياسة القتل والبطش تحت عنوان طائفي ظلّ شغالاً لصالح تلك الأحزاب حتى سنوات قليلة قبل انتفاضة شباب الوسط والجنوب، إضافة إلى استخدام أدوات الدولة الأمنية والعسكرية قبل أن تنمو وتكبر الميليشيات المسلحة.
لم تتوقع تلك الأحزاب المعزولة أن يفاجئها شعب محافظات الوسط والجنوب وشبابها بعنوانه الطائفي بمرحلة جديدة عنوانها التمرّد والثورة على الأحزاب وسلطتها الطائفية الفاسدة، بعد أن كان العنوان الطائفي مبعث اطمئنان واهم لتلك الأحزاب. كانت المرحلة الأولى من الاحتجاجات غير مثيرة لهواجس قادة الأحزاب “مجموعة من الصبية المتمردين بالإمكان إسكاتهم ببعض أدوات اللهو أو التلويح بالعقوبات التأديبية”. رغم ذلك ولغباء تلك الأحزاب وطغيانها لم يُقدم للشباب الثائر الحد الأدنى من تلبية المطالب.
كان من الطبيعي أن تتحول احتجاجات الوسط والجنوب إلى طريق الثورة، وهو مسار نقل جديد من الاحتجاجات الجزئية إلى مطالب سياسية للتغيير وإزاحة سلطة الأحزاب بعد قرابة العقدين من الفساد والنهب والعمالة. قادة الأحزاب هم الذين قادوا أنفسهم إلى الظرف الجديد في صراع لا يخطئه التاريخ بأن نهايته ستكون لصالح الثورة الجديدة.
بسبب خرافة التمترس خلف الطائفية صُدمت طغمة الفساد والخيانة بأن معالم الثورة الجديدة هي ليست احتجاجات وحراكا شعبيا موسميا عبر تظاهرات في نقاط جغرافية بميدان التحرير ببغداد أو الميادين الأخرى في المحافظات الرئيسية الجنوبية من العراق، يمكن قمعها وإنهاؤها، بل أصبحت نقطة تحوّل ثوري كبير لن تتمكن تلك الأحزاب مهما امتلكت من وسائل قتل وتشويه سمعة من تعطيلها، عبرّت عنها في أكتوبر 2019 رغم جسامة الثمن بالدماء.
لا يكفي لأي ثورة شعبية في التاريخ أن تعبّر عن أهدافها بصورة موسمية لأنها ستترك الفرصة لأعدائها في سلطة الحكم لإنهائها بشتى أساليب الخداع والمناورة والاختراق، وهذا ما لم يحصل بين 2019 – 2022.
عمق أهداف الثورة ومصداقيتها وسلميتها فوّت جميع الفرص على فاقدي مشروعية الاستمرار بالحكم، لم تعد المقاسات الديمقراطية الهزيلة في الانتخابات وعزوف أكثر من 80 في المئة من العراقيين عن التصويت الانتخابي قادرة على غلق الهوة العميقة بينهم وبين الشعب.
هذه الحال وضعت الثورة العراقية أمام مسؤوليات تاريخية وتحدّ مصيري، فالشعارات وحدها والإصرار والشجاعة ووضوح الهدف لا تكفي لمواصلة المسار، كان السؤال المهم ما بين 2019 و2022 هل يتمكن شباب متحمسون فدائيون من تحويل الرفض المُعمّد بالدم إلى مشروع وطني بمسؤوليات ليست مرحلية عابرة وإنما وفق برنامج واضح وقيادة تنظيمية تمتلك الحدود المقبولة من وحدة القيادة التنظيمية؟
مؤشرات حراك 2022 قبيل أكتوبر الحالي أشارت بوضوح إلى الانتقال للدخول في قوانين الثورة التاريخية، هذه ليست مبالغة، غالبية العناصر الثورية قد امتلكها ثوار أكتوبر “الشجاعة والفداء بالنفس والإصرار على مواصلة طريق التحدّي” الأهم ما حصل خلال الأيام الماضية من بوادر نضج سياسي ثوري في طرد الطارئين والمدسوسين، والأهم في الخطاب الجديد الحامل لعناصر مهمة في النضج السياسي.
في الأول من أكتوبر الماضي ظهرت علامات تأكيدية من بيانات لثوار ميدان التحرير بالعاصمة بغداد تحت عنوان “المجلس الوطني للثورة العراقية الكبرى” أهمها: إن هدف ثورة أكتوبر التغيير السياسي الشامل، تشكيل حكومة انتقالية، تغيير الدستور الحالي عبر لجنة دستورية، تطهير مؤسسات الدولة من الفاسدين، إعادة بناء مؤسسة الجيش العراقي وفق الانتماء الوطني لا الطائفي، حصر السلاح بيد الدولة وإنهاء دور الميليشيات.
شباب عراقي أختار طريق الثورة بوضوح وبعناصر الإصرار والمواصلة لإنهاء سلطة الفساد والعمالة، لا شك هذه الثورة الفتّية في حاجة في عالم اليوم إلى جميع وسائل الدعم والمساندة. لكن لأن ثورة العراق الجديدة ستنقل الشعب إلى مكان يمتلك فيه إرادته المستقلة، لا يتوقع أن تدعم ثورته وتقف إلى جانبه ضد السلطة المستبدة الجائرة الأوساط الإقليمية بما فيها العربية، ولا الأوساط الدولية من اتحادات ومنظمات ذات ازدواجية المعايير. المثال المخزي للاتحاد الأوروبي الذي أصدر بياناً يوم الأول من أكتوبر حيث حراك الثورة السلمي، ينتقد فيه ويقلق ويخشى على بقاء النظام وسلامته ويدعو إلى الحوار لا التصعيد السياسي. بهذا المنطق الهزيل تتصرف المؤسسات الدولية ذات المصالح الأنانية. ثورة العراق الجديدة يتيمة إلا من شعبها الصابر وسيكون النصر حليفها طال الزمن أم قصر.