في عالم الفساد مترامي الأطراف في العراق الذي تأسست إمبراطوريته بفعل رعاية النظام السياسي القائم ما بعد عام 2003 بأدوات المنظومة السياسية التي شغلت السلطة واستولت عليها في غفلة من الزمن، تحوّل الفساد إلى ثقافة لا ينقصها سوى التدريس في المدارس والجامعات للتعريف بطرق الفساد الحديثة وأساليبها التي ابتدعها محترفون وبارعون في فنون النصب والاحتيال.لم يعد الفاسد يخجل أو يستحي من مجتمعه، بل العكس، أصبح من قيم الشجاعة والرجولة أن يتباهى الفاسد بعنوانه والسارق بدونيته.يؤتى بشركة خاسرة أو وهمية يؤسسها المسؤول الذي يروم التعاقد معها، يتم إبرام العقد على أن يضم شرطاً جزائياً لتغريم المؤسسة المتعاقدة في حال إخلالها بالعقد، وجهان لجهة واحدة. تتم المماطلة في تنفيذ بنود الاتفاق ليتم الإيعاز بعد ذلك بنقض العقد وإلزام المسؤول ودائرته بدفع مبلغ الغرامة الذي نصّ عليه العقد المبرم بين الطرفين، وتكون المحصلة تقاسم المبلغ بين الأطراف المتقاسمة في الفساد. خسر العراق مئات الملايين من الدولارات من لعبة الفساد هذه.
فهلوة واحتيال لا يتقنهما سوى محترفين وخبراء في اللصوصية والسرقات بطرق فساد مشرعن يصعب الإمساك بتلابيب السرقة لغاية عام 2010، كانت الوزارات العراقية تضم مكاتب للمفتشين العموميين، صحيح أن هذه المكاتب كانت (لا تهشّ ولا تنشّ) أمام قضايا الفساد الكبرى حتى أصبحت “خيّال مآته”، إلا أنها كانت تمنع ولو القليل من ذلك الفساد حتى تمّ إلغاؤها بعد محاولات الأحزاب النافذة في السلطة ومكاتبها الاقتصادية في الوزارات لإفساح المجال للفاسدين بأخذ دور أكبر في تلك الوزارات.
يتندّر بعض العراقيين بحكايات طريفة عن الفساد وأهله، أن أحدهم سمع أغنية تقول “خذوا المناصب، خذوا المكاسب، لكن اتركوا لي الوطن”، وكان حينها يقود سيارة حديثة حصل عليها “كمكافأة” لقاء تمرير عقد لإحدى الشركات، وكانت رشوتهم مجزية بالنسبة إليه عبر هذه السيارة التي نسميها في العراق “إكرامية”، المهم وبينما ذلك الفاسد يسمع المقطع من الأغنية في الراديو ضحك حد القهقهة، وخاطب المغنّي بالقول “خذ الوطن وخذ معه كل شيء، لكن دع لي السيارة”.ومبارك لكم ولنا ما أُخذ، وهنيئاً لكل منا ما حصل عليه.
ربما المشكلة في قصة هذا الفاسد في النظام الذي يدفعه ليكون فاسداً، ذلك النظام الذي ينحني خشوعاً واحتراماً للفاسد الكبير وعرفاناً بجميل فساده، بينما ينتقم هذا النظام من طفل سرق علبة مناديل ورقية بأبشع ما يملك من انتقام عندما يُحكم عليه بالسجن لسنوات. فأصبح من البديهيات القول إن النظام الذي لا يقضي على الفساد فإنه يقوّيه.
لطالما عجزت كل سَرديات علم النفس عن الإجابة على فرضية سؤال ظل يُحير البشرية، وهو: ماذا يفعل الفاسد بكل ذلك المال المسروق، ولازال يبحث عن المزيد؟ وبماذا سيزيده المال المسروق درجة أو مرتبة عن البشر العاديين، إذا كان يأكل ما يأكلون ويلبس ويعيش أو حتى يتنفس كالآخرين؟ ماذا يفعل بهذا السُحت وهو الذي إذا جاء أجله لا يستقدم ساعة ولا يتأخر عنه؟معادلة ربما لم تجد من يحلّها مع أنها بسيطة لا تحتاج إلى ذلك التعقيد في الإجابة.الفساد أُعطيت له صفة الشرعنة من بعض الذين يعيشون في دوامة السلطة حتى أصبح بحراً متلاطم الأمواج أغرق الكثيرين، فيما لاتزال قلة قليلة جدا تحاول أن تعوم أو تقاوم الغرق ولو تمسّكت بخشبة بسيطة.خارج النص: يقول نجيب محفوظ “إننا نستنشق الفساد مع الهواء، فكيف نأمل أن يخرج من المستنقع أمل حقيقي لنا؟”.