بعد مرور عشرين عاما لم يتمكن قادة الأحزاب الإسلامية وكوادرها التخلص من النزعات الشخصية المتخلفة التي أملتها عليهم ظروف اجتماعية ونفسية تتناقض جوهريا مع التطور المدني في الحياة، أو العمل الجماعي السياسي، خصوصا حينما تتحول الأحزاب من معارضة الغرف والأقبية الظلماء إلى مساحة فسيحة لا حدود لها من التفاعل الحيوي مع مظاهر المجتمع الجديد، ومن أبرزها احترام قيمة المساواة بين المرأة والرجل وأنها نصف المجتمع الفاعل في مختلف الفعاليات الإنسانية ومنها السياسية.
كان الغطاء الديني محاولة للهروب من استحقاقات السلطة الجديدة، وتنفيذ دوافع الثأر والحقد والبقاء أسرى لفكرة أن المرأة هي للمتعة، أو خدمة مشروع العودة إلى كهوف التخلف والطقوس المذهبية المتطرفة. وتم تطويع العمل السياسي اليومي النسوي بعد 2003 لحفظ وتجويد مؤلفات من وظفوهم لمهمات أداء دور تخريب المجتمع العراقي ومتطلبات الحياة الديمقراطية الجديدة المفترضة. بل حرصت تلك القيادات ومعهم النافذون من رجال الدين الشيعة على مسايرة مظاهر الحجاب الإيرانية.
ليس مستغربا أن تظل تلك الدوافع المتخلفة تجاه المرأة، حتى وإن كانت على سبيل المثال مع ضيفة دبلوماسية، من قبل أغلب القادة النافذين من الحكام الإسلاميين الشيعة بعد مرور سنوات غير قليلة من حكمهم متحكمة في التعاطي السياسي اليومي، وهذا ما حصل مع المبعوثة الأممية جينين بلاسخارت التي استوعبت اللعبة وتعاطت وفقها خدمة لوظيفتها وبما يليق بها كممثلة للأمم المتحدة والمرأة من بلدان العالم الأوروبي المتحضر.زارت بلاسخارت عددا من قادة الميليشيات لدرجة وصفها “الخالة أم فدك” – نسبة إلى قائد ميليشيا حزب الله العراقي – كما قابلت في طهران علي أكبر ولايتي ممثل علي خامنئي، بعد توريط إيرج مسجدي السفير الإيراني السابق في بغداد لها، الذي صدمها بتصريحاته الداعية إلى عدم شراكة أيّ جهة دولية لهم في تسيير شؤون الانتخابات في العراق.
لم يكن مستغرباً تسريب أخبار صادرة عنها بأنها تلقت من قادة مسؤولين في الأحزاب الشيعية عروض “المتعة”، وهو زواج مؤقت مدفوع الثمن. هذا واحد من المواقف التي كانت جزءا من دوافع غير نزيهة ومتخلفة في العمل السياسي العراقي الراهن .
في الشهور التسعة الأخيرة فاجأت بلاسخارت المشهد الشيعي السياسي العراقي وكأنها تدير انقلاباً متدرجاً محكماً غامضة أهدافه؛ فضحت هؤلاء القادة بطريقة مهينة غير معهودة في سياق مهمتها منذ أربع سنوات، كانت حينها تهادنهم وتغازل سياساتهم، بينما دماء شهداء شباب أكتوبر 2019 تسيل أمام عينيها في ميادين العاصمة العراقية ومدن وسط العراق وجنوبه، بتسويق مزّيف أنها توزع الحوارات مع جميع الأطراف الفاعلة في المشهدين الأمني والسياسي.
لقد فضحت وكشفت جميع جوانب انهيار النظام السياسي القائم، الأخلاقية والسياسية، وفشل قادته وفسادهم الذي لا علاج له في نظرها إلا بتغيير المنظومة السياسية حيث قالت “خيبة أمل الشعب العراقي وصلت إلى عنان السماء. فقد الشعب الثقة بقدرة الطبقة السياسية العمل لصالح البلد”.
الفساد هو السمة الرئيسية للاقتصاد السياسي العراقي. الاعتماد على المحسوبية والمحاباة. المصالح الحزبية تتآمر لتحويل الموارد بعيدا عن الاستثمار. النظام السياسي ومنظومة الحكم يتجاهلان احتياجات الشعب العراقي. لا يمكن لأيّ زعيم الادعاء بأنه محميّ من الفساد. بالمعنى المباشر إن من يحكم العراق عصابة مافيا.
سبقت الصدمة الثورية لبلاسخارت في الرابع من أكتوبر الماضي مواقف أقل حدّة لكنها مُمهدة للوضع الجديد، عبر الإحاطات الدورية كل ثلاثة أشهر، التي تصاعدت منذ فبراير 2022 مروراً بمايو ثم يوليو وأخيراً الرابع من أكتوبر الماضي.
في فبراير الماضي بدأ التحول في الخطاب إلى المباشرة بالنقد السياسي، وقالت في تشخيصها للوضع الاجتماعي والاقتصادي والإنساني العراقي “إن شعب العراق لا يزال ينتظر فرص عمل مربحة ومنتجة وينتظر الأمن والأمان وخدمات عامة مناسبة وحماية كاملة لحقوقه وحرياته وينتظر العدالة والمساءلة والمشاركة الفعالة للنساء والشباب، بينما ما نشهده الآن هو العكس، عرقلة التغيير والإصلاحات التي تحتاجها البلاد بشدة”.
كما جاءت إحاطة 17 مايو 2022 أكثر مواجهة مع الميليشيات المسلحة، التي سبق أن وفرت لها غطاء أممياً خلال لقاءاتها المتواصلة مع قادتها، لتكشف صراحة “إن ذريعة تبرير الانسداد السياسي في الوقت الذي تطلق الجماعات المسلحة غير التابعة للدولة الصواريخ بحريّة واضحة وتنجح في الإفلات من العقاب لا يمكن قبولها”. واتهمت الميليشيات المسلحة باستخدام “دبلوماسية الصواريخ، ما قد تترتب عليها عواقب مدمرة. العراق ليس في حاجة إلى حكّام مسلحين ينصّبون أنفسهم زعماء.”
الأكثر عمقاً وتحولاً أن بلاسخارت أخذت تتحدث عن متطلبات الحكم الرشيد، وعدم مطابقته للحالة السياسية التي تقودها الأحزاب الحاكمة في العراق. بدأت تطلق مفاهيم متطابقة مع السياق السياسي العام لكل نظام يدّعي الديمقراطية، لكنها غير متوفرة بالوضع العراقي “لقد تركوا البلد في مأزق طويل الأمد. خيبة أمل الشعب العراقي وصلت إلى عنان السماء .فقد الشعب الثقة بقدرة الطبقة السياسية للعمل لصالح البلد”.
في المكاشفة الأخيرة لبلاسخارت لمجلس الأمن الدولي جردّت النظام السياسي القائم في العراق من أيّ قيمة أو بند من بنود علاقة أيّ نظام سياسي مع شعبه. وضعت الحكام في خانات أقل ما يقال عنهم فيها إنهم خصوم الشعب وليسوا خادميه. وساقت تفصيلات كثيرة لفضائحهم:
منذ عام 2003، أُهدرت العديد من الفرص لإجراء إصلاح هادف ومطلوب بشدة. وبعد ما يقرب من 20 عاماً، يتوجب على قادة العراق الإقرار بأن التغيير المنهجي أمر حيوي لمستقبل البلاد.
قبل ثلاث سنوات، نزل العراقيون إلى الشوارع للاحتجاج على انعدام الآفاق السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لقد كان حراكاً على مستوى لم يسبق له مثيل، ولكنه تحول إلى مأساة فقد لقي المئات من العراقيين حتفهم وأُصيب عدد أكبر بجروح بليغة، أو تعرَّضوا للاختطاف أو التهديد أو الترهيب.
النظام السياسي ومنظومة الحكم في العراق يتجاهلان احتياجات الشعب العراقي، أو حتى أسوأ من ذلك، يعمل بنشاط ضدها.
لقد أخفقت الأطراف الفاعلة على امتداد الطيف السياسي في وضع المصلحة الوطنية في المقام الأول. لقد تركوا البلد في مأزق طويل الأمد، مما زاد من تصاعد الغضب المتأجِّج أصلاً.
كان للشقاق ولعبة النفوذ الأولوية على حساب الشعور بالواجب المشترك. وكنتيجة مباشرة للتقاعس السياسي الذي طال أمده، شهد العراق أوقاتا حرجة وخطيرة للغاية.
فقد العديد من العراقيين الثقة في قدرة الطبقة السياسية في العراق على العمل لصالح البلد وشعبه. ولن يؤدي استمرار الإخفاق في معالجة فقدان الثقة هذا سوى إلى تفاقم مشاكل العراق.
الفساد سمة أساسية للاقتصاد السياسي العراقي الحالي، وهو متغلغل في المعاملات اليومية. وهو أمر مُقرٌّ به على نطاق واسع. ويمثل الفساد المستشري سبباً جذرياً رئيساً للاختلال الوظيفي في العراق. وبصراحة، لا يمكن لأيّ زعيم أن يدّعي أنه محمي منه.
لا يُعتقد أن بلاسخارت قد تركت من معجمها السياسي معلومة حول الأنظمة المستبدة والدكتاتورية في العالم إلا وعرضتها أمام مجلس الأمن الذي احتفظ بسياسة واشنطن حمايته إلى حد اللحظة.
وفق الانطباع العام كان مجلس الأمن الدولي مستمعاً لإحاطات ممثليته في العراق، لكن السؤال البديهي: لماذا امتنع المجلس عن الدخول في مناقشة جدية للوضع السياسي المتدهور وفق ممثليته حيث تحوّل الى دولة فاشلة، هل السبب في عدم وجود مداخلة من أحد أعضائه لمثل هذا التطور الجدّي الذي لا يخطئ سياسي بأنه سيؤدي إلى تحويل الإحاطة والمداخلات إلى ما هو غير مرغوب من واشنطن والدول دائمة العضوية حالياً، يعود لأسباب سياسية مصلحية.
هذه الحالة الجديدة تشير وفق السياق التاريخي للاحتلال الأميركي الذي لم تعلن واشنطن نهايته بل اكتفت باتفاقية ثنائية إستراتيجية تشير إلى فكرة التدويل.أكثر من سيناريو متوقع في مجلس الأمن، وأقل هذه السيناريوهات أهمية واحتمالا ما يقال عن أن المبعوثة الأممية أرادت أن تقدم في نهاية عملها المتوقع هذا العام، بإتمامها أربع سنوات، شهادة حسن سلوك أمام الشعب العراقي.
السيناريو الأكثر حيوية وتوقعاً يشير الى أن العراق المنهار سياسياً بسبب منظومة حكمه له أهمية في التطورات والتحولات القريبة المقبلة في المنطقة، وهذا يتطلب بلداً ذا قيادة عراقية وطنية تخدم مصالح شعبها وتكون لها سيادة على أراضيه، أي بلدا خالياً من الميليشيات الموالية لإيران المزعزعة لأمن العراق والمنطقة.