مثل عربي قديم فيه دلالة على أنه لا رجاء لفعل الخير من الأشرار “لن تجني من الشوك العنب”، خلاصته يقال إن صبياً وجد أباه يغرس شجرة في البستان، بعد فترة قصيرة أثمرت عنباً لذيذاً، لصغر سنّه ظن أن كل ما يزرع في أرض البستان سيثمر عنباً. وجد ذات مرة شجرة من الشوك ملقاة على الطريق فغرسها في البستان منتظراً أن يجني منها محصول العنب، لكنه فوجئ بعد مدة بالشوك ينتشر في أغصانها، ولم تظهر ثمار العنب، هنا قال له أبوه “إنك لا تجني من الشوك العنب، فلا تنتظر الشيء من غير أصله”.
تنطبق دلالات هذا المثل إلى حد ما على الناتج السياسي من الاحتلال الأميركي، مجموعة الفشل والفساد التي قادت العراق منذ أول انتخابات عام 2006 وإلى حد الآن بعد تطبيق بنود الدستور، الذي صنع الأميركان المحتلون من خلاله منطلقات النظام الفكرية والسياسية على أسس مرجعية الإسلام الشيعي وتوزيع السلطة وفق المحاصصة (شيعي – سني – كردي)، وكتب تلك القواعد اليهودي معاون الحاكم المدني بول بريمر نوح فيلدمان، أُلغيت فيه هوية العراق الوطنية، وتحمسّ له الأكراد والشيعة.
وفق الدستور، تمت المصادقة على نهاية دولة العراق 1921 – 2003 واستمرت الشكليات الخارجية للدولة كالارتباط مع الأمم المتحدة أو دول العالم. لكن في واقع الحال ألغيت هوية هذا البلد دستورياً حيث حُدّد العراق ببلد المكونات. هذه الوثيقة السوداء رسمت معالم التخريب السياسي والاجتماعي والثقافي للبلد، والتغييب المقصود لعناصر التواصل بين أبناء العراق على أساس الهوية الوطنية، حين حلّت بدلها الهويات الفرعية وما أنتجته من أزمات طاحنة لسنوات من الحكم الطائفي المرّ، لتكتشف بعض القوى الشيعية لدوافع عدة من بينها مدى الخراب الذي تركته في حياة الناس أهمية مغادرة هذا الخندق الذي حفره الطامعون بالعراق.
لا أحد يصّدق المتبجحين بأنهم من كتبوا وثيقة الدستور ليبعدوا عنه شبح الصنعة الخارجية. دور هؤلاء الكتبة من الشيعة والأكراد اقتصر على تعزيز لغة التوصيفات الطائفية في فرعيات السلطة، التي غابت عن الخبير الأميركي رغم تخصصه في “الإسلاميات”، لكنها بسبب انعدام قيم المصالح الوطنية لدى هؤلاء المتدربين على السياسة جاءت مُلغّمة بالغموض المقصود وغير المقصود أحياناً. أصبحت فيما بعد واحدة من الصدامات السياسية بين الحليفين الكردي والشيعي التي انتهت بعد انتخابات أكتوبر2021 إلى الفراق.
لم يكن للمهمشين من السنة من دور في تلك الوثيقة سوى المبايعة والمصادقة، كان همّهم التكسبّ والانتفاع الذاتي مقابل إعطاء المصداقية لتلك المعادلة الطائفية في وقت كان أبناء ملّتهم يذبحون بسبب مقاومتهم للمحتل الأميركي. قادة الحزب الإسلامي وناشطوه تحمسوا بطريقة أكثر انبطاحاً للوضع الجديد، ورحّب بهم حزب الدعوة، وكلاهما ينتميان إلى منابع فكرية إسلامية واحدة قادها حسن البنا.
مرحلة تقاسم السلطة بين الأكراد والشيعة 2006 – 2018 فيها الكثير ليقال، المهم لمناسبة هذه السطور هو غياب مصالح الشعب الذي تحول في مواثيقهم إلى طوائف وأعراق (شيعة وسنّة وأكراد)، الفرضية الطائفية التي خلقها الاحتلال ومجّدها وتمسك بها السياسيون المذهبيون الشيعة وعملوا على تنفيذها تعاطت مع أوهام أبرزها أن “الشيعة ظلموا تاريخياً بسبب حكم العرب السنّة منذ 1400 عام في بلاد العرب، ومنذ 1921 في دولة العراق”، الآن الحكم للشيعة، لا بد للانتخابات ونتائجها الإبقاء على سيطرة سياسيي الشيعة بصورة مّا في الحكم.
مفهوم “الأغلبية الشيعية”، من خلال ذات الأحزاب التي جاء بها الاحتلال الأميركي وعززها الاحتلال الإيراني الجديد بعد خروج الأميركان عام 2011، لا بد أن يبقى سائداً من دون تغيير. هذا هو السبب الرئيسي في منع نشاط أيّ فعالية سياسية وطنية عراقية خلال الدورات الانتخابية الأربع الماضية قبل عام 2021، تُشم منها رائحة التخلّي عن المعادلة الطائفية في الحكم.
تفصيلات واقعية كثيرة تتعلق بالتخلّي عن مبادئ الوطنية العراقية من بينها المثال القاسي في تسليم ثلث أرض العراق إلى تنظيم داعش الإرهابي، في ظل حكم زعيم حزب الدعوة نوري المالكي عام 2014، كذلك مسؤوليته المباشرة عن جريمة معسكر سبايكر في محافظة صلاح الدين، التي نفذّها داعش وليس أبناء صلاح الدين كما جاهر أحد المرتزقة السنة بذلك. كذلك التورط المستمر في المسؤولية المباشرة عن سرقة المليارات من الدولارات، سواء مباشرة أو بالتغطية على عصابات مافيا السرقة، التي ما زالت مستمرة رغم فترة فراغ السلطة التي يعيشها البلد.
لو افترضنا جدلاً أن الطبقة السياسية الشيعية الحاكمة، خاصة قادة حزب الدعوة الذي حكم فعلياً ثلاثة عشر عاماً بينها ثمانية أعوام لزعيمه نوري المالكي، قدموا إنجازات شعبية لعرب العراق لأن القادة الأكراد تحملوا المسؤولية تجاه شعبهم الكردي من خلال إقليمهم الخاص، لتعزز مفهوم حكم الشيعة رغم مساوئ الطائفية، ولصفّق الناس لهذا الحكم وأصبحوا موالين له وتم تسفيه إمكانية نجاح النظرية الوطنية مقابل الحكم الديني الطائفي في الحكم، لا أن يخرج بعد أعوام من الحرمان الشباب الشيعة في الوسط والجنوب خصوصاً عام 2019 ثائرين وقدموا الدماء من أجل تطبيق شعار “نريد وطنا”.
انتخابات أكتوبر 2019، رغم خلفيات مقاطعتها من 80 في المئة من الشعب، شكلّت نقطة تحوّل مهمة لا تنحصر مفردات نتائجها بتقدم تيار إسلامي شيعي يقوده الزعيم الشاب مقتدى الصدر
لقد أسقط حكام الفساد والاستبداد الطائفي بأنفسهم فعلياً نظرية “حكم الأغلبية الشيعية” بعد العزلة القاتلة التي أصابتهم، ولا يجوز لهم حتى على مستوى الشعارات المحاولات اليائسة لاسترداد هذا الحكم الذي خسروه فعلياً منذ سنوات حتى وإن كانوا على رأس السلطة. ذلك أن الحاكم الحقيقي هو من يريده ويحبه ويحميه الشعب وليست البنادق والكاتيوشا والدرون.
انتخابات أكتوبر 2019، رغم خلفيات مقاطعتها من 80 في المئة من الشعب، شكلّت نقطة تحوّل مهمة لا تنحصر مفردات نتائجها بتقدم تيار إسلامي شيعي يقوده الزعيم الشاب مقتدى الصدر على غيره من الأحزاب التي كشفت عن ولائها لطهران، بالتزامن مع إزاحة أحد المسؤولين عن جرائم قتل 800 شهيد من الثوار رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي، التطور المهم هو التعديل النسبي في حيثيات صفقة السلطة التي قادها مقتدى الصدر ورفضت بقوة من الولائيين.
لم تعد استغاثات القوى الشيعية الولائية بضياع “هيمنة التمثيل الشيعي” في البرلمان الجديد أو القلق من ضياع “سلطة الشيعة” مسموعة من الشعب وقواه غير الشيعية تجاه ما سيحصل من تعديلات في دورة السلطة التنفيذية الجديدة تتم عرقلتها، رغم أن من يقود هذه التعديلات المهمة هو زعيم شيعي مؤمن بقيادة الشيعة للحكم، لكن تداعيات هذا الحكم لم تعط فرصة جديدة لاستمرار أولئك الحكام المتورطين بالفساد والولاء الخارجي ممن يدّعون انتماءهم إلى الطائفة. فهذا النمط من الولاء أقرب إلى العمالة للأجنبي منه إلى الولاء للطائفة.
التمسك بتلك المفاهيم الطائفية ومفرداتها الكثيرة في مرحلة التحول المتوقعة لا تجد لها مكانة في مخيلة الجمهور العراقي عموماً والشيعي خاصة، الذي اكتوى بمرارة هذه التجربة القاسية، ومثلما يقال “ظلم الأقارب أقسى”. وتفاعل قائد شيعي زعيم التيار الصدري مع شعارات الوطن والإصلاح والتغيير وتحالفه السياسي مع كتلتي السيادة “السنية” والديمقراطي “الكردية” يكسبها وطنية عابرة للتخندق الطائفي المُظلم رغم الملاحظات السياسية التفصيلية على طريقة تعاطي الصدر مع الوقائع.
اقتنعت القوى الولائية الشيعية بأن الجمهور العراقي قد وضعها في دائرة خصومة الاستبداد ومعاداة آمال الشعب، وتأكدت من خسارتها وضياع تأثير جميع مفردات عدّتها الطائفية لدى الجمهور الشيعي مثل “قيادة المكوّن الأكبر للحكم” والحفاظ على حكم الشيعة لهذا تحاول تكسير الموجة السياسية الصدرية عبر التأثير العاطفي على صاحبها مقتدى الصدر.
تطوّر مفردات الخصومة السياسية بين التيار الصدري والإطار الولائي أدى خلال اليومين الأخيرين إلى الدخول في معركة مفتوحة خارج مبنى البرلمان الجديد الذي نجحت قوى الإطار في تعطيل انسيابية آلياته في تعيين رئيسي الجمهورية والوزراء، والانتقال إلى الشارع إن لم تنجح إيران في لملمة شتات الشيعة السياسيين لضمان عدم فقدان أيّ من مصالحها الكثيرة في هذا البلد المُختطف. المعركة ما زالت في بدايتها لكنها لن تغيّر اتجاه النهاية المحتومة لما يسمّى بحكم الشيعة للعراق، لكن حقيقته حكم ولاية إيران للعراق.