لو طرح كل منا هذا السؤال على نفسه، هل أنت بحق.. مواطن؟ وهل تنتمي إلى أمة وشعب؟ وكيف ستثبت لنفسك ولغيرك على وجه اليقين أنك مواطن فعلا وحقيقة، وأنك موجود فاعل؟ بلا شك ستقدم شهادة الميلاد، أو بطاقة سكانية، أو جواز سفر، وهل ترضى لنفسك أن تكون معادلا لورقة مختومة؟ إن أي إنسان غير قادر على أن يترك بصمته في أرض الواقع، أو لا يستطيع أن يضيف إلى الدنيا جديدا، هو زائد فيها ليس جديرا أن يحيا.
كان لأحد الولاة ساق خاص يرفده بالماء يوميا من بئر عذبة نقية في أطراف المدينة، بواسطة جرتين تتدليان بحبل يشدهما إلى طرفي قضيب كالميزان، يحمله على كتفيه كعادة السقاين قديما قبل اكتشاف الإسالة. كانت إحدى الجرتين سليمة والأخرى فيها تشققات، ينضح منها الماء على مهل، وكان الساقي يملأ الجرتين بالماء ويتجه بهما إلى دار الوالي الذي يشرب من الجرة السليمة ويزعجه شكل الجرة القديمة التي فقدت نصف مائها وابتلت من خارجها، فأمر خادمه أن يحضر له جرتين جديدتين سليمتين، وفي صباح اليوم التالي طلب الوالي من الساقي أن يستبدل الجرتين القديمتين بالجرتين الجديدتين فهو لا يريد رؤية الجرة القديمة ذات الشقوق، غير أن الساقي أعرض عن أمر الوالي الذي تساءل مع نفسه عن سبب إعراض الساقي الذي كان طوع مشيئته! فاستفسر منه، فأجابه: إذا كنت تراني لا أصلح لسقايتك يا سيدي اتركني واستأجر غيري، مما أثار استغراب الوالي وعجبه، فالساقي يعمل لديه سنين طويلة لم يعص له امرا، فسأله عن السبب الذي دفعه إلى الاحتفاظ بالجرة القديمة التي تفقد نصف مائها في الطريق، قال الساقي: إذا كنت تريد معرفة السبب فانتظرني غدا على الطريق، لتتبين لماذا أحتفظ بهذه الجرة القديمة التي ضقت بها ذرعا، وهي مصدر سعادة لي يا سيدي.
وفي الغد ملأ الساقي الجرتين كالعادة وسار بهما على الطريق، حتى إذا صادفه الوالي، رأى الجهة اليمنى من الطريق امتلأت بالخضرة والأزهار والتفت حولها الفراشات والنحل، فأدرك أن هذه الخضرة والأزهار ما نبتت إلا بفعل تساقط قطرات الماء من الجرة القديمة المشققة على جانب الطريق فأصبح مزهوا نضرا بالنباتات، أما الجرة السليمة فكانت جهتها جافة قاحلة لأنها لم تكن تنزل الماء كالتي على يمين الطريق، فما كان للساقي إلا أن يقول للوالي، هذه الجرة السليمة لك يا سيدي، وأما الجرة الأخرى فلشعبي ووطني، فهم الوالي فلسفة هذا الساقي البسيط الذي كان يظنه ساذجا، فكانت فلسفة العمل والأفعال أقوى دلالة في رسالتها من الأقوال، وعلى صاحب كل عمل أن تكون له رسالة تجاه نفسه، وأخرى تجاه شعبه ووطنه، فما خلق الإنسان ليتعلم ويعمل فيأكل ويمتع نفسه كالأنعام، وإنما عليه حق لنفسه، وعليه حق لوطنه.
ترى هل فكر أحد منا أن عليه أن يوفر جزءا من وقته أو قسطا من جهده ولا يبخل بهما على شعبه ووطنه، وكم منا من وفى وطنه الذي منحه اسمه وأعطاه صفة الوجود حقا؟ وهل تصور إنسان منا نفسه ماذا سيكون وأين سيكون وكيف سيكون من دون هذا الوطن؟ وما هو طعم حياته من دون انتماء إلى وطن وشعب وأمة؟ وليت شعري كيف ينام قرير العين من خان وطنه وطعن شعبه في الصميم؟ أو قصر في خدمتهما، يقول بدر شاكر السياب:
إني لأعجب أن يخون الخائنون! أيخــون إنســان بــلاده؟
إن خـان معنــى أن يكــون، فكيــف يمكــن أن يكـــون؟
وهل سأل الذين يتساءلون عبطا عن ماذا أعطاهم الوطن؟ ما الذي قدمه هؤلاء للوطن أولا؟ وعلى الإنسان أن يقدم ويعطي قبل أن يأخذ، فالعبيد والخونة هم من يقبضون ويستلفون مقدما، وعلى الأحرار التضحية أولا! فهل يا ترى هندسنا ذواتنا وذوات أبنائنا على خدمة الوطن بالطريقة التي هندس فيها هذا الساقي – على تواضع قدره – نفسه وعطاءه؟ قد نجد كثيرا من المتعلمين والمثقفين ممن يمتلك المال والجاه والسلطة والقلم لكن دوره في الحياة ليس بأعمق وأكبر من دور هذا الساقي البسيط الذي يعلمنا درسا بليغا في حقوق الوطن والمواطنة، فذكر إن نفعت الذكرى